يُعتبر الاستثمار ضرورياً لكفاءة الاقتصاد حيث تنصّ النظرية الإقتصادية أنه بدون إستثمارات، لا يُمكن أن يكون هناك نموٌّ أو وظائف. وعلى الرغم من ذلك، هناك حالات استثمارات يمكن أن تؤدّي إلى الإضرار بالعمالة. ويأتي تصنيف الإستثمارات بحسب الهدف الذي يسعى إليه المُستثمر، لتُظهر الحالة التي تؤدي فيها الإستثمارات إلى الضرر بالعمالة:
أولاً – هناك الإستثمارات في القدرات (capacité) والذي يعني شراء رأس مال ثابت بهدف رفع القدرة الإنتاجية مثل شراء مُعدّات إضافية أي زيادة الكميّة المُنتجة، وبالتالي هذا النوع من الإستثمار هو إستثمار خالق للوظائف.
ثانياً – هناك الإستثمارات في الإنتاجية (productivité) والذي يعني شراء رأس مال ثابت بهدف تحسين كفاءة الإنتاج دون زيادة القدرة الإنتاجية مثل إستبدال الموظّف بآلة. هذا النوع من الإستثمار هو إستثمار مُدمّر للوظائف.
ثالثاً – هناك الإستثمارات بهدف الإستبدال (remplacement) والذي يعني إستبدال رأس المال الثابت الموجود برأس مال ثابت جديد مثل إستبدال المعدّات الموجودة. هذا النوع من الإستثمار ليس له أيُّ تأثير على الوظائف.
برهن العالم الإقتصادي كينز أنّ كمية الوظائف التي يتمّ خلقها في نهاية المطاف هي كمية مُضاعفة للكمية الأساسية (Effet Multiplicateur). أي بمعنى أخر إنّ الإستثمارات تخلق موجة من الوظائف وبالتالي هناك توزيع إضافي وأوسع للمداخيل (Effet Primaire). هذه المداخيل الإضافية التي تتوزّع بين الإستهلاك والتوفير، تزيد من الطلب على السلع والخدمات الأخرى وبالتالي تزيد من نشاط الشركات الأخرى ما يعني زيادة العمالة (Effet Secondaire). ويستمرّ الأمر على هذا النحو إلى حين يتمّ توفير كل هذه المداخيل من قبل اللاعبين الإقتصاديين.
في العام 1976، قال المُستشار الألماني هلموت شميت إنّ «أرباح اليوم هي إستثمارات الغد وهذه الأخيرة هي وظائف ما بعد الغد». هذه العبارة التي تمّ إثباتها ميدانياً على الأرض هي معادلة صالحة فقط في الإقتصادات الحرّة التي تكون فيها نسبة المُنافسة عالية وفيها توزيع عادل للثروة الوطنية. وبالتحديد هذه العبارة الأخيرة هي محور كل الآلية!
فالإستثمار من قبل الشركات يخلق طلباً على السلع والبضائع، هذا الطلب يؤدّي إلى تحفيز القطاع الذي تنتمي إليه هذه البضائع وبالتالي يُترجم بزيادة اليد العاملة فيه. من جهة أخرى زيادة اليد العاملة تعني إرتفاع المداخيل الموزّعة، وبالتالي لنا الحق بالإستنتاج أنّ إرتفاع مداخيل الأُسر يعني إرتفاع الطلب على السلع والبضائع وبالتالي رفع العمالة.
على صعيد أخر وفي إطار نموٍّ إقتصادي ضعيف ومنافسة شديدة، تذهب الشركات إلى الإستثمار في الإنتاجية على حساب القدرات. وهذا يعني أنّ هناك إستبدالاً للعمالة برأس المال ما يعني خفض عدد الوظائف. وهذه المُشكلة تضرب الإستثمارات في لبنان حيث إنّ النموّ الضعيف يؤدّي إلى إعطاء الأولوية للربحية من قبل الشركات وبالتالي خفض عدد الوظائف فيها. هذا الأخير يعني بكل بساطة خفض القدرة الإستهلاكية وبالتالي خفض الطلب والدخول في حلقة مُفرغة!
من المعروف أنّ غالبية المشاريع التي وردت في الورقة التي قدّمتها الحكومة اللبنانية في مؤتمر «سيدر» (Capital Investment Plan) تحوي على مشاريع بنى تحتية بالدرجة الأولى: نقل (8.8 مليار د.أ، 50 مليون نهار عمل)، مياه (4.9 مليارات د.أ، 40 مليون نهار عمل)، صرف صحي (2.7 مليار د.أ، 45 مليون نهار عمل)، كهرباء (5.6 مليارات د.أ، 28.8 مليون نهار عمل)، إتصالات (700 مليون د.أ)، نفايات (1.4 مليار د.أ)، ثقافة، سياحة وصناعة (1.2 مليار د.أ).
إذاً كيف سيتمّ الإستثمار في هذه المشاريع ووفق أيِّ آلية؟ من المفروض أن تعمد الحكومة إلى إعتماد آلية شفافة للمناقصات على أن يتمّ تلزيم المشروع للشركة التي تستوفي الشروط المنصوص عليها في دفتر الشروط. وبفرضية أنّ الأمور سارت بشكل جيّد أي أنّ المناقصة كانت شفافة وربحت الشركة الأكثر كفاءة وملاءة المناقصة، تظهر إلى العلن مُشكلة إقتصادية وهي مُشكلة خلق الوظائف!!
بحسب مُهندسي مؤتمر «سيدر»، الهدف الأساسي من الإستثمارات هو تحفيز النموّ الإقتصادي وخلق الوظائف. إذاً هناك إهتمام أكثر من أساسي، عبّر عنه رئيس الحكومة بقوله إنّ مشاريع «سيدر» ستخلق 900 ألف وظيفة على عمر المشاريع (أي من المفروض 10 سنوات). لذا يتوجّب الإنتباه إلى المُشكلتين اللتين سنطرحهما أدناه حتى يتمّ تعظيم الإستفادة من هذه المشاريع.
المُشكلة الأولى: هناك كميتان أساسيتان يجب النظر إليهما بتمعّن وهما سرعة إرتفاع رأس المال وسرعة إرتفاع الوظائف. العلاقة بين هاتين الكميتين من المفروض أنها متلازمة، إلّا أنّ البيانات التاريخية أظهرت أنّ الشركات الكبيرة (التي من المفروض أن تربح المناقصات في مشاريع سيدر) ستعمد إلى إستثمارات من نوع «الإستثمارات في الإنتاجية» بالدرجة الأولى، وذلك بحكم أنّ في هذه الشركات يتنافس رأس المال الثابت واليد العاملة وبالتالي أيّ إستثمار يعني بالدرجة الأولى إستبدال اليد العاملة برأس مال ثابت. أما فيما يخصّ الشركات الصغيرة والمُتوسّطة الحجم فإنّ إستثماراتها هي حكماً إستثمارات من نوع «الإستثمارات في القدرات» وبالتالي فهي تخلق تلقائياً وظائف.
المُشكلة الثانية: كما وسبق الذكر أعلاه، لا يُمكن تحفيزُ النموّ الإقتصادي إلّا من خلال زيادة مداخيل العدد الأكبر من الأُسر في لبنان، وهذا يعني أنّ أرباح مشاريع «سيدر» هي حقّ طبيعي للشعب اللبناني (أو أقلّه القسم الأكبر) تضمنه النظرية الإقتصادية التي تؤكد أن لا إمكانية للإستثمارات أن تُعطي مفعولها من دون أن تكون هناك إستفادة للأسر. هذه النقطّة أكّد عليها كل من البنك الدولي الذي قال إنّ الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم هي الأداة لمحاربة الفقر وخلق فرص العمل، وصندوق النقد الدولي الذي قال إنّ هذه الشركات هي الأداة لنقل التكنولوجيا من الإقتصادات المُتطورة إلى الإقتصادات في طور النمو.
من هذا المُنطلق، نرى أنّ على الحكومة اللبنانية أن تعمد في قانون المناقصات الذي سترفعه إلى مجلس النواب أن تأخذ بعين الإعتبار هاتين المُشكلتين حتى لا يكون عناء وتعب مؤتمر «سيدر» قد ذهب مع الريح.