قبل أشهر قليلة من توسّع نطاق الحرب، كان هناك حلقة ضيّقة من مصارف القطاع التي أدركت أنّها لم تعد قادرة على الاستمرار في حالة المراوحة، على مستوى أزمتها المستمرّة منذ نحو خمس سنوات. وكان الحديث يدور داخل هذه الحلقة حول عبثيّة الخيارات الانتحاريّة التي تذهب باتجاهها جمعيّة المصارف نفسها، والتي دأبت منذ العام 2020 على لعب دور تخريبي في مواجهة الخطط والحلول الماليّة، وخصوصًا تلك التي يتبنّاها المجتمع الدولي وصندوق النقد. تُرجم حِراك هذه الحلقة الواقعيّة لاحقًا في اجتماعات مباشرة مع جهات دوليّة فاعلة ومؤثّرة في المشهد اللبناني، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي. منذ خمسة أشهر، لم يعد جناح “حمائم المصارف” مجرّد متفرّج على اللعبة، كما كان الحال قبل عامين، بل أخذ زمام المبادرة.
التصعيد العسكري الذي بدأ منذ شهر أيلول الماضي لم يترك مجالًا للحديث عن الحلول الماليّة أو الاقتصاديّة، بانتظار تبلور التوازنات السياسيّة التي ستنتج عن التطورّات الراهنة. في الأوساط المصرفيّة، وخصوصًا البراغماتيّة منها، أي الأكثر ميلًا للبحث عن حلول تتناسب مع حجم الأزمة الماليّة، بات الحديث يتركّز على سيناريوهات ما بعد الحرب، وتأثير كل سيناريو على مستقبل القطاع المصرفي وأزمته. وبصورة أوضح، صار البحث يتناول احتمالات الدخول في مسار التعافي المالي، بما يفرض تلقائيًا التفاهم مع صندوق النقد الدولي، في ضوء نتائج التصعيد الراهن.
التسوية السياسيّة والحل المالي
في تلك النقاشات الدائرة اليوم، بات هناك ربط واضح ما بين خلاصات الحرب المحتملة، وفرص المضي بتسوية سياسيّة داخليّة تملك غطاءً عربيًا ودوليًا، وتمهّد لحلحلة الملفّات السياسيّة والاقتصاديّة العالقة، ومنها تلك المرتبطة بخطط التعافي المالي. يرى بعض كبار الإداريين في القطاع أنّ هذه الحرب ستكون كأي حرب أخرى مجرّد تعبير مكثّف عن توازنات القوّة في الميدان العسكري، ومن المفترض أن يليها جولات تفاوض يحاول فيها كل طرف –بما في ذلك القوى الإقليميّة والدوليّة المؤثّرة- فرض شروط معيّنة على المستوى الأمني والسياسي في لبنان. وبمعزل عن التوازنات الجديدة التي ستنتجها هذه المرحلة، ثمّة رهان على ما سيلي خلط الأوراق، لناحية تشكيل مشهد سياسي يسمح بالمضي قدمًا في المسارات الماليّة المعلّقة.
في احتمال التسوية السياسيّة، المتوافق عليها إقليميًا ودوليًا، ثمّة تعويل خاص على تليين شروط الخارج الماليّة والاقتصاديّة، وخصوصًا تلك المرتبطة ببرنامج صندوق النقد الدولي. في نهاية الأمر، وبخلاف النهج الذي اتبعته جمعيّة المصارف، تدرك الأوساط الواقعيّة داخل القطاع المصرفي أنّ الحلول الماليّة الشاملة، وفي طليعتها تلك المتصلة بإعادة هيكلة الدين وتسوية أزمة المصارف، تحتاج إلى المرور ببرنامج الصندوق. وبينما يملك الصندوق اعتبارات ذات طابق تقني بحت لتحديد شروطه، يراهن كثيرون في العادة على التأثير السياسي، الذي يمكن أن يحدد درجة التشدّد في تطبيق هذه الشروط.
ضمن هذا السيناريو أيضًا، تتناول النقاشات المصرفيّة تأثير “اقتصاد إعادة الإعمار” المنتظر بعد الحرب، وخصوصًا إذا انتهى التصعيد الحالي بمشهد سياسي جديد قادر على اجتذاب المساعدات الدوليّة والخارجيّة. في “اقتصاد إعادة الإعمار”، نحن نتحدّث عن تدفّق استثنائي من السيولة التي ستموّل تعويضات الإيواء والترميم وإعادة بناء المباني والمنازل المدمّرة، وعن حركة تجاريّة وماليّة ستنتج عن هذ النشاط الاقتصادي. وفي حال وجود خطّة تعافي واقعيّة، يمكن لهذا النشاط الاقتصادي أن يكون رافدًا لعمليّة النهوض. أما في حال غياب الخطّة، فالنتيجة هي تحريك سوق “الاقتصاد النقدي”، الخارج عن نطاق تداولات النظام المالي الشرعي. غير أن خشية الخارج من اقتصاد الكاش، قد تكون دافعًا إضافيًا لتحريك مسار خطّة التعافي، بالتوازي مع تدفّق هذه المساعدات.
تتمايز وتختلف كل هذه التحليلات المصرفيّة المحليّة عن تقارير الشركات الماليّة الدوليّة الأخيرة، التي وجدت أنّ تحجيم حزب الله في المشهد السياسي ستكون مسألة متوقّعة بعد الحرب، وأن هذا التطوّر سيكون كفيلًا بعودة السلطات في لبنان إلى سياسات محابية للسوق. فتسويات ما بعد الحرب قد لا تُنتج واقعًا من هذا النوع بالضرورة، والحرب نفسها قد لا تفرض هذه الخلاصة. لكنّ إعادة تشكيل المشهد السياسي، في ضوء رعاية إقليميّة أو دوليّة وبترتيبات أمنيّة، قد تكون كفيلة بتحريك الملفّات الاقتصاديّة الراكدة، وهذا قد لا يفرض إقصاء أي مكوّن طائفي أو حزبي بشكل كامل (وفق هذا السيناريو).
الثابت الأكيد في كل هذا النقاش، هو أن مسار التعافي سيفرض عمليّة غربلة داخل القطاع المصرفي، وذلك بمعزل عن -وبخلاف- الشروط التي حاولت جمعيّة المصارف فرضها في المرحلة الماضية. باختصار، ستحتاج عمليّة إعادة الهيكلة إلى إقصاء المصارف غير القادرة على الاستمرار بالعمل، وبالتحديد تلك التي لا تملك قدرة إعادة الرسملة. وبقدر اقتراب المشهد السياسي الجديد من الرؤية الإصلاحيّة الماليّة، سيتمكّن لبنان من مواجهة المصالح التي حالت دون تحدّي هذه الفئة من المصرفيين.
تعميق الأزمة القائمة
في مقابل هذا الاحتمال، تتطرّق النقاشات المصرفيّة الدائرة لسيناريو متشائم ومختلف تمامًا. إذا لم يجد الجانب الإسرائيلي نفسه معنيًا بتسوية لإنهاء الحرب، أي إذا حاول فرض واقع أمني بالقوّة على المدى البعيد، أو إذا فشلت المكونات السياسيّة المحليّة في لبنان في إيجاد تسويات سياسيّة في مرحلة ما بعد، ثمّة خشية من استعمال الواقع المالي كورقة ضغط على لبنان في المرحلة المقبلة.
في هذا السيناريو، ثمّة مخاوف من تضييق قد يطال علاقة البلاد بالنظام المالي العالمي، من زاوية إعادة تحريك مسألة الخوف من مخاطر تبييض الأموال وتفشّي الاقتصاد النقدي. وفي جميع الحالات، من المتوقّع أن يسهم “سيناريو غزّة”، أي استطالة الحرب من دون أفق قريبة وواضحة، في تعميق الأزمة الماليّة القائمة على المدى البعيد، بالنظر إلى آثار شح تدفّق السيولة بالعملات الأجنبيّة خلال الظروف الحاليّة.
بمعزل عن مآلات الحرب والتسويات السياسيّة، يبقى من الأكيد أن مستقبل القطاع سيبقى مرهونًا بتطبيق عمليّة إعادة الهيكلة المؤجّلة منذ خمس سنوات. وعلى هذا الأساس، لن تعجّل أي خلاصة سياسيّة أو أمنيّة للحرب في الحل المنشود، ما لم يتكامل مع المعالجات الاقتصاديّة والماليّة المطلوبة. وهذا سيتطلّب طبعًا كسر شبكة عميقة من المصالح المحليّة، التي لا تقتصر حدودها على فريق سياسي معيّن.