بات لكلمة تقشّف شعبية كبيرة بعد أزمة الديون السيادية في اوروبا، حيث انّها أصبحت في قاموس «مريم ويبستر» كلمة العام في سنة 2010 مع مستويات ديون مرتفعة جداً، وبصورة غير مقبولة، حيث اضطر العديد من البلدان الى تخفيضات كبرى في ميزانياتها من اجل سدّ العجز وتفادي التخلّف عن الدفع.
هذه العوامل، من تخفيض العجز والإنفاق وخفض الخدمات العامة معروفة اجمالاً بتدابير التقشف. وقد نكون نحن في لبنان قد أخذنا جرعة منها في السنوات القليلة الماضية، والآن الآتي أعظم، لا سيما وانّ الموازنة وما وصلت اليه، ما زالت دون المقبول والمطلوب، والدولة غير قادرة على القيام بأي مبادرة، خصوصاً مع وجود فوائد مرتفعة، اقلّه، تشلّ عامل الاستثمار، ما يعني أننا في حالة ضياع لا يمكن الخروج منها الّا بتدابير تقشفية مؤلمة لها تأثيرها الاقتصادي والاجتماعي.
وللعلم، انّ التقشف سلاح ذو حدين، والمناقشة حوله وحول توقيته وفعاليته غالباً ما تختلف بين السياسيين والاقتصاديين. من الناحية العلمية فقط، نلاحظ آراء «جيفري ساكس»، مدير معهد الأرض في جامعة كولومبيا، والذي يحبّذ هذه العملية، في حين يعارض أساتذة الاقتصاد في جامعة امبريال كولدج الموضوع.
في النتيجة، تبدو المسألة تتعلق بالثقة في الحكومة والأسواق المالية والمستهلك. لذلك نرى أنّ الأمور أبعد من كونها عملية تقشف فقط، بل لها تبعاتها أيضاً مثل تخفيضات الميزانية وزيادة الضرائب، رغم انّها قرارات غير شعبية. ومن المعروف، أنّ التخفيضات في الميزانية وزيادة الضرائب عمليتان متوازنتان، ولا يمكن معالجة هذا العجز الكبير مع واحدة فقط من العمليتين.
وهذا ليس سراً، اذا ما كانت الحكومة تُنفق أكثر مما تحصّل. وللمساعدة في دفع الدين عليها أن تختصر في كل شيء، لذلك قد تكون سياسة التقشف ضرورية مع فوائد مرتفعة جداً، الأمر الذي يعني تدفّق أموال أقلّ في الاقتصاد والبنية التحتية والخدمات العامة، وتتجه حتماً الى خدمة الدين.
ثانياً، يمكنك الذهاب الى الوضع الافتراضي، والذي هو عجز الدولة عن سداد ديونها، الأمر الذي يُعتبر كارثياً. وللحصول على المساعدات قد نلجأ الى التدابيرالتقشفية، وهذا الذي حصل في اليونان، بعد شروط المانيا بالتحديد وصندوق النقد الدولي، اللذين اشترطا على اليونان تدابير تقشفية مؤلمة.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن، هل وصلنا الى الحالة نفسها التي وصلت اليها اليونان، وهل سوف نسير بالتدابير التقشفية ذاتها التي اتخذتها، علماً أنّه وفي الحقيقة، تدابير التقشف لا تعيد الاقتصاد الى مستويات عالية، لكنها تساعد وبشكل كبير عند استخدامها في الدول التي تعاني من أزمة ديون. والسيناريو الأكثر شيوعاً الناجم عن تدابير التقشف:
1- الآثار الاقتصادية: تؤدي تدابير التقشف الى خفض الاستهلاك ونمو الناتج. وبعض الدراسات أشارت الى أنّ العلاقة بين النشاط الاقتصادي والتقشف تعتمد على العديد من العوامل الخارجية، ما يجعل هذه الآثار غير مؤكّدة.
2 – الآثار السياسية: ناهيك عن الآثار المالية، فتدابير التقشف لها آثار كبيرة على سياسة البلد، لاسيما وانّ معظم سياسات التقشف تستهدف الإنفاق الانمائي والاجتماعي، ما يعني انّ الاضطرابات الاجتماعية هي الأكثر شيوعاً. وعلى سبيل المثال، شهدت اليونان عدداً من الاحتجاجات العنيفة نتيجة التدابير المتخذة في العامين 2011 و 2012.
3 – الآثار الاجتماعية: تدابير التقشف لها أيضاً تأثير كبير على الحياة اليومية، لاسيما وانّ الحكومات تعتبر الموظف الأكبر والمؤمّن للشبكات الاجتماعية.
4- التكلفة البشرية: تدابير التقشف في اليونان على سبيل المثال وبعد 8 سنوات، كانت هائلة. اذ أنّ نسبة البطالة ارتفعت من 8.4 بالمئة في نهاية عام 2008 الى 8.27 بالمئة في العام 2013 نتيجة افلاس الشركات. كذلك تدنّت المعاشات بمعدل 15 بالمئة، الأمر الذي يعني أنّ اليونان استعادت على ما يبدو القليل من قدرتها التنافسية وزادت الصادرات. ولكن هذا يعني ايضاً انّ الفقر في اليونان تضاعف وأصاب 22 بالمئة من السكان مقابل 7 بالمئة في المتوسط الأوروبي حسبما كشفته منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي.
ولم تؤدِ سنوات التقشف التي عاشتها وتعيشها اليونان منذ اكثر من 8 سنوات ألّا الى انتعاش بسيط في الاقتصاد ونمو لم يتجاوز 1.6 بالمئة، بما معناه أنّ سنوات التقشف هذه لم تعطِ النتائج المرجوة حسب دراسات صندوق النقد الدولي.
ولمن يظن في لبنان انّ هذه التدابير قد تؤدّي الى زيادات تصل لحوالى 7 بالمئة فهو مخطئ كونه امّا لا يعرف كيف تسير الأمور اقتصادياً، أو أنّه متفائل أكثر من اللازم. كذلك لمن قال انّ نسبة النمو هي صفر بالمئة للسنة الفائتة، كلامه جاء منقوصاً وغير صحيح. كذلك دراسة «ماكينزي» التي توقعت النمو في العام 2019 حوالى 2 بالمئة كانت متفائلة جدًا، لاسيما وأننا لسنا في مستوى الصفر بل ما زلنا دون الصفر.
واذا ما سلّمنا جدلاً بأنّ تدابير التقشف ستُنفذ في لبنان، فنكون نحن المواطنين ندفع ثمن سوء ادارة وامانة السياسيين، ومنذ العام 1993 ولغاية الآن، لاسيما وأنّ الموازنة جاءت دون المرجو ولم تطل اياً منهم (الطبقة السياسية) ولا من مجالسهم ولا من معاشاتهم ولا من مخصصاتهم، الأمر الذي يعني زيادة البطالة والفقر وتراجع الإنفاق وغيرها من الصعاب التي عاشها اليونانيون ويعيشونها لغاية الآن.
لذلك، لا بدّ من القول إننا نعيش فترات حرجة، تحتاج قرارات لها أهمية سياسية واجتماعية دون ادنى شك. وقد نكون في فترة حرجة تشكّل مرحلة مفصلية في الاقتصاد اللبناني الذي يعاني الركود والانكماش. فيما تحاول مجموعة صغيرة من المجتمع اللبناني ادارة أموره وحلّ مشاكله دون الأخذ في الاعتبار هيئات المجتمع المدني والعمال والخبراء الاقتصاديين.