لم يعد خافياً على أحد عمق الأزمة الماليّة والإقتصاديّة التي يعيشها لبنان، وهي بلا شكّ “طويلة الأجل”. فعلى خطّ تشكيل الحكومة برئاسة حسّان دياب، ومع كلّ السيناريوهات المطروحة لـ”تعثّر” هذه التشكيلة، فإنّ العين ما زالت تشخصُ نحو سوق الدولار في لبنان، الذي يعتبر “مغارة سوداء”. حالياً، فإنّ المصارف باتت تزيدُ الخناق على عمليات السّحب والتحويل. وعلى النحو الفعلي، فإنّ ما يُحكى عن “شح” للدولار في الأسواق ليس حقيقياً أبداً، وهذا ما يتّضح لدى الصرّافين الذين يبدون استعدادهم لبيع الدولار مهما كانت قيمة العملة المقابلة. هذا الأمر يكشف عن عملية مشبوهة تجري في السوق السوداء، ويطرح تساؤلات عن مصدر هذه الدولارات المتوافرة بكثرة، ما يفتح الباب أمام سيناريو خطير يفضح لعبة الدولة والمصارف في ما خص الدولار والليرة اللبنانية.. فما حقيقة ما يجري؟
في المضمون، فإنّ لعبة الدولار داخلية بحتة، ولا علاقة لها بأي معطى خارجي، لاسيما أنّ كلام وكيل وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية ديفيد هيل بعد لقائه المسؤولين اللبنانيين كان إلى حدّ بعيد يشير إلى أن “الولايات المتحدة لن تفرض قيوداً على لبنان، وهي ستساعد الحكومة الفاعلة والمنتجة”. ولذلك، فإنّ الكثير من تفاصيل اللعبة التي تحصل في الأسواق باتت مكشوفة، وهذا ما يتضح من عدم تدخل المصرف المركزي لتأمين السوق بالدولار، وهو كان قادراً على ذلك. إلّا أن “التراتبية” في الأزمة كشفت المخطّط كله الذي بدأ في العام 2016 بشكل دقيق حينما بدأ مصرف لبنان بوضع هندسات ماليّة، لكن الناس لم يشعروا به بشكل مباشر. فالقطبة المخفية تتعلق بإيداعات الناس التي يجب ملاحقة مكان وجودها، إذ أن ما انكشف هو أنّ المصارف أخذت كل هذه الإيداعات ووضعتها لدى المصرف المركزي بطلب منه، مقابل الحصول على فائدة تصل إلى 17%. كل ذلك، من أجل تشغيل هذه الإيداعات، كون مصرف لبنان لديه التزامات خارجية وعليه تسديدها، وهو لن يخاطر بموجوداته، ولذلك لجأ إلى الإيداعات الخاصّة.
وبحسب الخبراء، فإنّ لعبة الدولار في السوق اللبناني هي لعبة لإسترداد الإيداعات أولاً، ولضرب القدرة الشرائية لرواتب الناس ثانياً، وتمهيد لتغيير سعر صرف الليرة أمام الدولار، ثالثاً. أما الفرق في إرتفاع سعر صرف العملة اللبنانية أمام الدولار، فهو من أجل تعويض الإيداعات المفقودة من المصارف، وذلك بالإعتماد على السوق السوداء. ما انكشف أيضاً أنّ قيود المصارف على سحب الأموال سببها النقص الحاد في الإيداعات المالية الخاصة بالناس، ولذلك فإنّ لعبة السوق من خلال رفع سعر صرف الدولار والأموال الناجمة عن هذا الفرق، يعوّض نسبة كبيرة من هذه الإيداعات تباعاً، ما يعني أنّ الدولار سيرتفع أكثر وقد يصل إلى هامش الـ3000 ليرة وأكثر، من أجل تعويض المصارف كل الإيداعات وإعادتها إلى صناديقها، بالشراكة مع المصرف المركزي والصرافين على حدّ سواء. وما يمكن توضيحه أكثر أن المصارف تقوم بالمضاربات من مال الناس وليس من مالها الخاص، وهو الأمر الذي يعتبر تجاوزاً كبيراً.
ماذا عن قيمة الدين العام؟
ووسط كل هذه الأزمة، فإنّ الأمر الأبرز المفروض على الدولة اللبنانية هو إعادة هيكلة الدين العام من أجل تسديده للدائنين. ووفقاً للأرقام، فقد وصل الدين العام في نهاية حزيران 2019 إلى85 مليار دولار (127500 مليار ليرة)، وهو يتوزع على الليرة اللبنانية والدولار، إذ أن 62% منه بالليرة اللبنانية (52 مليار دولار = 78 مليار ليرة)، مقابل 38% بالدولار الأميركي (33 مليار دولار = 49500 مليار ليرة). ومع تدهور قيمة العملة اللبنانية، فإنّ المصارف التي سلّفت الدولة أموالاً بالليرة اللبنانية، لن تقبل بتحصيل أموالها سوى بالدولار وعلى سعر صرف ثابت أساسي، إذ أنها عكس ذلك ستخسر الكثير من الأموال المحدّدة قيمتها بالإجمالية بتاريخ العقد بينها وبين الدولة اللبنانية. وعليه، فإنّ هذا الأمر سيفتح أزمة أكبر على المصرف المركزي الذي سيضطر إلى تسديد الدين العام بالدولار للمصارف الخاصة، في الوقت الذي يُحكى فيه عن نقصٍ في السيولة.
“لا إفلاس” للمصارف..
وبعكس كلّ ما يُشاع، فإنّ مجمل الخبراء الإقتصاديين يؤكدون أنّ المصارف في أمان كبير، ولا مشكلة لديها في العملات الصعبة ولا حتى بالليرة اللبنانية، كونها لم تستخدم إحتياطها أبداً. ولذلك، فإنّ الحديث عن الإفلاس قد يكون مرتبطاً بنقص في الإيداعات العائدة للناس. إلا أنّ ما يحصل قد يعرّض بعض المصارف للخطر، وهو الأمر الذي قد يفرض على الدولة “تأميم” تلك المصارف، مثلما حصل في بريطانيا عام 2008 خلال أزمة الرهن العقاري، حينما لجأت الحكومة البريطانية إلى تأميم العديد من المصارف وأبرزها مصرفي ” نورثرن روك” و “بنك برادفورد”. وتساهم هذه الخطوة إلى حدّ كبير في الحفاظ على هذه المصارف من الإفلاس، وبالتالي تساهم في إعادة إنتظام أوضاعها وضمان ودائع الناس بالحدّ الأدنى.
ومع كل ذلك، فإنه يفترض على الحكومة العتيدة وضع خطّة تتضمّن إجراءات لبدء خفض الدين العام، وإعادة هيكلة هذا الدين ومكافحة الفساد في الإدارات العامة، وإعادة النظر في النظام الضريبي لوضع مزيد من العدالة الإجتماعية ورفع مداخيل الدولة من خلال الضريبة التصاعدية.