أقفلت الأزمة المتنامية أبواب الحماية الصحية والاجتماعية، التي احتمى عدد هائل من المواطنين في ظلّها لعقود. فالمستشفيات باتت انتقائية في اختيار مرضاها لأن التغطيات المالية من الجهات الضامنة الرسمية، ما عادت تتناسب مع سعر صرف الدولار في السوق. ولا تنحصر المعضلة في المستشفيات الخاصة، بل ترزح المستشفيات الحكومية تحت وطأة أكبر، فجُلُّ نزلائها من غير القادرين على تأمين كلفة الاستشفاء، ما يُرتِّب أكلافاً غير مدفوعة، وتالياً تراجعاً في القدرة على تأمين المعدّات والمسلتزمات، أي ضعفاً في تقديم خدمة الاستشفاء. والأصعب، أن الوضع السيّىء يتفاقم.
أموال المستشفيات الخاصة
تتأخَّر المصارف في دفع المستحقات المالية للمستشفيات الخاصة، والتي بدورها تؤخِّر دفع مستحقات الشركات المورِّدة للأدوية والمستلزمات الطبية. لتبقى أمام خيارين، إمّا ترك المريض بلا أدوية ومستلزمات، أو الطلب منه دفع ثمنها بشكل مباشر.
الخيار الثاني تبنّته نقابة أصحاب المستشفيات الخاصة على لسان نقيبها سليمان هارون، الذي أعلن أن “المريض سيتحمّل ثمن أدوية علاجاته بعدما باتت المستشفيات الخاصّة غير قادرة على تأمينها، باستثناء البعض الذي ما زال يملك مخزوناً”.
ضعف السيولة التي تعطيها المصارف، جعلها تعتمد الشيكات المصرفية، لكن المستوردين، بحسب هارون، “يزيدون 20 بالمئة على قيمتها”. وما تحوِّله المصارف للمستشفيات “لا يكفي لسدّ بين 15 إلى 20 بالمئة من التكاليف”. ونقص السيولة يعود إلى “عدم تحويل الأموال الكافية من مصرف لبنان إلى المصارف”.
وفي حديث صحافي، وضع هارون الحل بيد مصرف لبنان، معتبراً أن “الحل واحد ويأتي من مكان واحد هو مصرف لبنان”. وعليه، “الحساب مع المرضى الأسبوع المقبل سيكون مغايراً”.
المستشفيات الحكومية تحتضر
يمكن للمستشفيات الخاصة “الالتفاف” على عدم توفُّر الأموال بالطلب من المرضى تأمين الأدوية والمستلزمات “فمن يذهب اليوم إلى المستشفيات الخاصة، يكون غالباً ميسوراً مادياً. لكن ماذا عن مرضى المستشفيات الخاصة”، تسأل مصادر طبية في المستشفيات الحكومية.
“يصعب على المستشفيات الحكومية طلب ثمن الأدوية مسبقاً من مرضاها. ولا يمكنها الاعتماد على وزارة الصحة. فيما التغطية الصحية من الوزارة والضمان الاجتماعي وتعاونية موظفي الدولة، غير متناسبة مع الثمن الفعلي للأدوية والمستلزمات الطبية”، تضيف المصادر في حديث لـ”المدن”.
ولا تقف معاناة المستشفيات الحكومية هنا. فتأخير إنجاز الترتيبات القانونية مع وزارة الصحة، يؤخّر المستحقات المالية. فعلى سبيل المثال “تأخير توقيع العقود بين الوازرة وإدارات المستشفيات الحكومية، يحرم المستشفيات من تقديم فواتيرها للوزارة وقبض أموالها”. والمعضلة الأخرى، هي “توقُّف بعض الجهات الدولية المانحة عن تقديم المساعدات للمستشفيات. فالصليب الأحمر الدولي وبعض السفارات والمنظمات الدولية، كانت تتبرّع بأدوية ومواد طبية ومازوت، وحالياً، لا تبرّعات”.
بالتوازي، تضع المصادر موقف نقابة أصحاب المستشفيات الخاصة في خانة “دق ناقوس الخطر”. فالمستشفيات تقول بأنها “غير قادرة على الاستمرار في ظل عدم توفّر المال. وإن كانت المستشفيات الخاصة تعاني، فكيف هو واقع المستشفيات الحكومية؟”.
حلول لتخفيف الأزمة
لا حلول جذرية تُقَدَّم في هذا المجال. لكن يمكن لوزارة الصحة تخفيف الضغط عن المستشفيات عبر “ما يسمّى بكتاب وزير، وهو إجراء كان متّبعاً سابقاً، يقوم على حصول المريض على موافقة الوزير لإجراء صورة أو فحوصات طبية بلا حاجة لدخول المستشفى إن لم يكن وضعه الصحي يستدعي الدخول، وهو ما يقرّره الطبيب، على أن تتقاضى المستشفى كلفة العمل الطبي من الوزارة”.
وتشرح المصادر أن “عدم إلزام المريض بالدخول إلى المستشفى، يخفّف أكلافاً وخدمات كبيرة، بالإضافة إلى الأدوية والأمصال التي قد لا يحتاجها فيما لو لم يَبِتْ ليلته في المستشفى. وبذلك تكون الوزارة قد غطَّت كلفة العلاج وبقي المريض في منزله”. ومنعاً للمحاصصات أو المحسوبيات في تسيير هذه الخدمة، كأن تُوَزَّع البطاقات التي سيحملها المرضى للاستفادة من هذه الخدمة، على المحازبين أو المناصرين أو ذوي النفوذ “يمكن للوزارة تحديد سقف للتغطية، بنحو 50 بالمئة، فلا تعود هذه البطاقة مغرية إلاّ لمن يحتاج للعلاج بشكل فعلي، فخفض السقف يُبقي كلفة معيّنة على المريض، يمكن سدّ بعض ثغراتها بمبادرات أخرى”.
أيضاً، يمكن لوزارة الصحة “إطلاق مناقصة عمومية واحدة لشراء المواد الطبية والمستلزمات لكل المستشفيات الحكومية. فتستطيع بذلك إلزام الشركات المستوردة بخفض الأسعار واختيار جودة ممتازة، وتوقِف أبواب السمسرات المفتوحة. وهذه الحلول تعيد الاهتمام للمستشفيات الحكومية”.
تحاول وزارة الصحة حلحلة العُقَد عن طريق “حثّ وزارة المالية ومصرف لبنان على تحويل المستحقات”، وفق ما يقوله لـ”المدن”، مدير العناية الطبية في وزارة الصحة، جوزيف الحلو، الذي يؤكّد أن “مستحقات المستشفيات عن العام 2022 ما زالت غير مدفوعة”. آملاً أن “تُحَلّ الأزمة خلال أسبوع”.
إلاّ أن تحويل المستحقات، لا يلغي عدم تدفّق الأموال بسلاسة من مصرف لبنان إلى المصارف، ومنها إلى المستشفيات. وفي معرض الانتظار وما تفرزه الأزمة من مفاجآت “يدخل 70 بالمئة من المرضى إلى المستشفيات على حسابهم الخاص”.