شبح اللائحة الرماديّة مجددًا: اقتصاد العزلة والعصابات

في نهاية الشهر الحالي، ستكون البلاد على موعد مع التقييم الجديد لمجموعة العمل المالي (فاتف)، لتحديد تصنيف لبنان على مستوى مخاطر تبييض الأموال. وبهذا، يلوح في الأفق مجددًا خطر إدراج لبنان على اللائحة الرماديّة، بعدما نجا اللبنانيون بشق النفس من هذا التصنيف المُرّ في أواخر أيّار الماضي، أي قبل أقل من عام. يومها، تجاوز تقييم لبنان الحد المطلوب للإدراج على القائمة الرماديّة بنقطة واحدة فقط، وفقًا للمعايير التي تعتمدها المجموعة، وهو ما أعطى لبنان فترة سماح قصيرة لمعالجة مكامن الخلل القائمة. بعدها، أصدرت المجموعة في الشهر الأخير من العام الماضي لائحة بالتوصيات المطلوبة من جانبها، كي يتفادى لبنان –هذه السنة- خفض تصنيفه.

على هذا النحو، سيعتمد تصنيف لبنان في نهاية الشهر على درجة الامتثال للتوصيات المحددة في أواخر العام الماضي. وخلال الأشهر الماضية، تعددت الإشارات التي حذّرت من تباطؤ لبنان في تنفيذ المطلوب لتفادي تخفيض التصنيف، وخصوصًا على مستوى تفشّي اقتصاد النقد الورقي. وهذا ما يثير الخشية حاليًا من انتقال لبنان إلى مرحلة قاتمة بعد نهاية الشهر الراهن، عنوانها تزايد العزلة الماليّة وارتفاع مخاطر الأنشطة غير المشروعة. هذا المشهد، هو الثمن الطبيعي لاستدامة الأزمة الماليّة على مرّ السنوات الأربعة الماضية، وتأخّر عمليّة إعادة هيكلة المصارف، وهو ما نقل نسبة كبيرة من المعاملات الماليّة إلى اقتصاد الظل وتداولات النقد الورقي.

توصيات مجموعة العمل الماليّة
البحث عن احتمالات خفض التصنيف بعد أسبوعين، يقودنا إلى مراجعة توصيات المجموعة في أواخر العام الماضي، والتي سيمثّل التقدّم في تنفيذها المعيار الذي سيحدد تقييم لبنان المقبل. وبشكل عام، تركّزت معظم توصيات المجموعة على المسائل التي تخص تنظيم اقتصاد النقد الورقي، أو الاقتصاد الخارج عن رقابة وضوابط مصرف لبنان، والذي بات يمثّل اليوم 46% من الناتج المحلّي الإجمالي بحسب تقديرات البنك الدولي. ومن المعلوم أن توسّع حجم هذا الجانب من الاقتصاد غير المنظّم، هو النتيجة الطبيعيّة لأزمة السيولة التي يمر بها القطاع المصرفي، العاجز عن تقديم أبسط الخدمات الماليّة البديهيّة في هذه المرحلة.

أبرز توصيات المجموعة، طالبت لبنان بوضع خطّة عمل لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب في القطاع المالي غير المنظّم، في إِشارة مباشرة إلى اللاعبين الأساسيين في سوق الصيرفة والإقراض، الذين يعملون بعيدًا عن رقابة النظام المالي الشرعي. كما طالبت المجموعة بتقييم المخاطر الناشئة عن عمل المنظمات المسلّحة المحليّة “الرديفة”، في تلميح واضح لإمكانيّة استفادة منظمات مثل حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي من تفشي تداولات اقتصاد النقد الورقي. كما طالبت التوصيات بخفض مخاطر الإثراء غير المشروع على مستوى المسؤوليين الرسميين، وعمليّات الإتجار بالمخدرات والتهريب وغيرها.

التوصيات، طالبت أيضًا بدور فعّال على مستوى السلطات الضريبيّة، لتمكينها من استخدام المعلومات الماليّة في رصد عمليّات تبييض الأموال والإثراء غير المشروع، وهو ما يمثّل طلبًا صعب المنال في ظل تردّي خدمات الإدارة العامّة وتراجع مستوى الأداء فيها. أمّا الأهم، فهو مطالبة المجموعة باستحصال جهات “إنفاذ القانون”، أي القضاء وسائر المؤسسات الرسميّة، بداتا تسمح لهم بأداء دور فاعل على مستوى مكافحة تبييض الأموال.

إلى جانب كل ذلك، طالبت التوصيات بزيادة التنسيق الدولي العابر للحدود، لتمكين الجهات الرسميّة من تجميد الأصول التي يُشتبه بارتباطها بعمليّات تبييض للأموال، وهو ما يُذكّر بالعقبات التي حالت دون تنسيق القضاء اللبناني على أكمل وجه مع التحقيقات الأجنبيّة المتعلّقة بحاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة. مع الإشارة إلى أنّ جميع هذه التوصيات تُذكر مجددًا بالتعديلات التي طرأت على قانون سريّة المصارف، والتي كان المفترض –لو تم العمل بها- أن تسهّل على القضاء الولوج إلى الحسابات المصرفيّة عند إجراء التحقيقات أو التبّثت من مصدر الأموال المشتبه بشرعيته.

وبشكل عام، كانت جميع التوصيات ترتبط بآليّات الرقابة على العمليّات الماليّة في السوق، بعدما طرأ على الاقتصاد اللبناني تحوّلات جذريّة منذ العام 2019، على مستوى الانتقال إلى اقتصاد النقد الورقي. فهذه التحوّلات، قلّصت من فعاليّة نموذج الامتثال السابق، القائم على مراقبة التحويلات المصرفيّة حصرًا، حيث بات من المفترض أن تفعّل الأجهزة الرسميّة نفسها الرقابة على عمليّات السوق التي تجري خارج المصارف. وهذا ما يحتاج إلى نموذج متكامل جديد، لا يمكن بناؤه خلال بضعة أشهر، ناهيك عن إشكاليّة غياب الإرادة السياسيّة وعدم تلقّف المسؤولين لمخاطر تحذيرات مجموعة العمل المالي.

إشارات وتحذيرات
على مرّ الأشهر الماضية، تلقى لبنان العديد من الإشارات والتحذيرات المرتبطة بمخاطر تبييض الأموال، وهو ما يؤشّر إلى احتمالات تخفيض التصنيف الإئتماني في نهاية الشهر. أبرز تلك التحذيرات، جاءت خلال زيارة نائب مساعد وزير الخزانة لشؤون آسيا والشرق الأوسط جيسي بيكر، خلال شهر آذار الماضي، إذ ربط بيكر بوضوح ما بين تأخّر إعادة هيكلة القطاع المصرفي وتوسّع اقتصاد النقد الورقي. باختصار، كانت الرسالة الأميركيّة تركّز على الربط ما بين الإبقاء على مصارف “الزومبي”، وتزايد العزلة الماليّة التي سيعاني لبنان منها في المستقبل.

ببساطة، رأى الوفد الذي ترأسه بيكر أنّ فكرة تمييز “الفريش دولار” عن الودائع العاديّة، تمثّل بيئة مؤاتية للأنشطة غير الشرعيّة، كما تمثّل عامل مساعد على تطبيع اقتصاد النقد الورقي. مع الإشارة إلى أنّ زيارة بايكر وتحذيراته توازت في تلك المرحلة مع فرملة النقاش حول مشروع قانون إعادة الهيكلة، على طاولة مجلس الوزراء، وهو ما أعطى رسائل الوفد الأميركي رمزية خاصّة.

في جميع الحالات، يبقى من المهم الإشارة إلى أنّ خفض تصنيف لبنان، إلى اللائحة الرماديّة، سيترك مجموعة من التداعيات وأبرزها ارتفاع كلفة العمليّات الماليّة بين لبنان الخارج، والتضييق على عمل المصارف اللبنانيّة مع المصارف المُراسلة، بإلإضافة إلى تشديد شروط فتح الاعتماد المستنديّة بالنسبة للشركات اللبنانيّة. وبهذا، ستكون اللائحة الرماديّة مجرّد خطوة إضافيّة باتجاه اقتصاد البؤس المعزول عن النظام المالي العالمي، الذي تهيمن عليه جميع أشكال الأنشطة الماليّة غير المشروعة.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةإستثمار النفط والغاز بين الداخل والخارج
المقالة القادمةهل تعود خطة ماكنزي وكتاب نسناس الى الواجهة للنهوض الاقتصادي ؟