مستوردو النفط، موزّعو المشتقات النفطية، محطات الوقود، كلهم مضربون اليوم. يأتي تحركهم احتجاجاً على عدم توافر الدولارات في السوق لتغطية قيمة استيرادهم للبنزين والمازوت والغاز. العلاج الوحيد لمشكلتهم أن يفتح مصرف لبنان «حنفية» الدولارات من احتياطاته بالعملات الأجنبية، فيما هو يرفض التفريط بها… هذا هو الوجه الجديد للأزمة الاقتصادية التي تشمل كل السلع الأساسية، بما فيها الدواء والقمح
وسط توقعات بارتفاع سعر صفيحة البنزين اليوم، بقيمة 200 ليرة، والأسبوع المقبل بقيمة 500 ليرة، تنفّذ شركات استيراد وتوزيع وبيع المشتقات النفطية إضراباً ليوم واحد احتجاجاً على «امتناع المسؤولين عن معالجة أزمة شحّ الدولارات في السوق التي تنعكس سلباً على تجارتهم وعلى قدرتهم على استيراد البنزين والمازوت والغاز».
الحدثان ليس مرتبطاً مباشرةً أحدهما بالآخر. فارتفاع أسعار النفط سببه ارتفاع الأسعار العالمية بعد الضربة اليمنية لشركة «أرامكو» في السعودية. أما إضراب شركات النفط اللبنانية، بمختلف أنواعها، من مستوردين وموزعين ومحطات وقود، فهو متصل بالأزمة التي يعاني منها الاقتصاد اللبناني منذ فترة غير قصيرة.
ظاهر المشكلة لدى قطاع النفط أن الشركات تستورد المشتقات النفطية وتدفع ثمنها بالدولار الأميركي وتبيع البضاعة للمستهلك بالليرة اللبنانية. في السابق، كانت الشركات تحصل على الدولارات لتغطية الاعتمادات من طريقين: أكثر من 40% من مبيعاتها في السوق المحلية كانت بالدولار، وباقي حاجتها من العملة الصعبة تشتريه من المصارف. أما اليوم، فسبب شحّ الدولارات في السوق وتمسّك الجميع بالدولارات الموجودة في حوزته، باتت الشركات مرغمة على «تسوّل» الدولارات من الصرافين وشرائها بأسعار تفوق السعر الرسمي.
أسباب شحّ الدولارات في السوق صارت معروفة. فمصرف لبنان «يقبض» على الدولارات، ليضعها في احتياطاته بالعملات الأجنبية التي تنطوي عل مهمتين أساسيتين: مراكمة الاحتياطات عند مستوى مرتفع نسبياً بهدف خلق الثقة لجذب المزيد من الدولارات من الخارج، التدخّل عند الحاجة لبيع الدولارات في السوق وتغطية الطلب المحلي وإبقاء سعر صرف الليرة مقابل الدولار عند 1507.5 ليرات وسطياً. والطلب يأتي بشكل رئيسي من عمليات الاستيراد التي تحتاج سنوياً إلى أكثر من 17 مليار دولار لشراء السلع التي يستهلكها اللبنانيون.
ما حصل في السنوات الأخيرة، أن وتيرة تدفق الدولارات إلى لبنان تراجعت، وبات مصرف لبنان يستنزف احتياطاته بالعملات الأجنبية لتغطية الطلب، فصار «يقنّن» بيع الدولارات في السوق، إلى درجة أن المصارف لم يعد لديها ما يكفي من السيولة بالدولار لبيعها للمستوردين، وأبرزهم تجار النفط الذين تبلغ قيمة مستورداتهم أكثر من 4 مليارات دولار سنوياً. وعندما لجأت الشركات إلى الصرافين، تفاقمت المشكلة لديها، وباتت تشتري الدولارت بأسعار أعلى من أسعار المصارف. وبما أن سعر مبيع البنزين والمازوت محدّد من الدولة بالليرة اللبنانية، بدأت الشركات تطالب بإجراءات تعوّض لها فرق السعر من جهة، وتؤمن لها الدولارات اللازمة لاستقرار تجارتها من جهة ثانية.
طبعاً، في ظل هذه الأزمة تستعمل عبارات تشير إلى أن المشتقات النفطية سلعة «حيوية» أو «استراتيجية» لا يمكن أن ينقطع السوق منها، أي أن الشركات تلمّح إلى أنه في حال عدم تمكينها من استيراد السلعة، ستكون مضطرة إلى وقف الاستيراد، ما يعني فقدان المشتقات النفطية من الأسواق.
بحسب الرئيس السابق لتجمع مستوردي النفط في لبنان مارون شماس، فإن الاتصالات التي جرت مع المسؤولين في لبنان أفضت إلى اقتراح أن تُخصَّص الدولارات من مصرف لبنان عبر المصارف، لتمويل استيراد بعض السلع مثل المشتقات النفطية «إلا أنه لم يصلنا أي جواب بعد، رغم مراجعة المسؤولين بهذا الخصوص. تواصلنا مع وزارات المال والاقتصاد والطاقة، وأبلغونا أنهم سيعالجون المشكلة مع حاكم مصرف لبنان. قد لا يعني عدم إبلاغنا أي جواب أنه ليس هناك اهتمام، بل قد يكون الأمر متعلقاً بعدم نضج الحل». وبالفعل، كانت وزيرة الطاقة ندى بستاني، قد عرضت المسألة أمس على مجلس الوزراء، إلا أن رئيس الحكومة سعد الحريري توجّه إلى الوزراء بالقول: «هناك مشكلة في توافر الدولارات، ونعمل على معالجتها مع حاكم مصرف لبنان». بهذه العبارة انتهى النقاش وسلّم الجميع الحل لسلامة.
لبنان يقف بين التمسك باحتياطات الدولار وبين شحّ السلع الأساسية
أصلاً، سلامة مطّلع على القضية، وتلقّى قبل بضعة أشهر كتباً رسمية من مستوردي المشتقات النفطية والدواء. بحسب بعض تجار النفط، فإن مطلبهم يتلخّص بتخصيصهم بمبلغ ملياري ونصف مليار دولار سنوياً لتمويل الاعتمادات التي تفتح مع المصارف، إلا أن حاكم مصرف لبنان يرفض هذا الحل، لأنه سيضغط على احتياطاته من العملات الأجنبية. تجار آخرون أشاروا إلى أن الهدف من تباطؤ مصرف لبنان في تقديم العلاج لا يقتصر على عدم التفريط باحتياطاته، بل هو يسعى إلى «خنق» أو «لجم» عمليات الاستيراد بجميع أشكالها، مشيرين إلى أن مصرف لبنان يعمل على إصدار تعميم يفرض على المصارف ألّا تفتح اعتمادات بالعملات الأجنبية للاستيراد إلا بشرط أن يضع المستورد في حسابه المصرفي 15% من قيمة العملية، وبالعملة الأجنبية.
في الواقع، إن هذه المشكلة لم تظهر حديثاً، بل هي محور متابعة بين التجار ومصرف لبنان منذ أشهر. فعلى سبيل المثال، طلب تجار المشتقات النفطية من سلامة معالجة المشكلة قبل فترة طويلة، وحصلوا على «وعد» لم ينفذ بعد، والأمر سيان بالنسبة إلى مستوردي الدواء الذين يشترون الدواء من الخارج بالدولار الأميركي ويبيعونه في السوق المحلية بالليرة اللبنانية، وهو مسعّر من قبل وزارة الصحة أيضاً، فقد راسلوا سلامة عن مواجهتهم للمشكلة نفسها قبل نحو 10 أشهر. يومها، تلقوا أيضاً عبر وزير الصحة السابق غسان حاصباني، وعداً بأن الحاكم يعمل على إنجاز آلية تتيح لهم تمويل فاتورة استيراد الدواء.
كذلك الحال بالنسبة إلى تجار القمح وأصحاب المطاحن في لبنان، ولغيرهم الكثير من مستوردي السلع الأساسية الذين يزعمون أنه لم يعد في مقدورهم الاستيراد إلا بعد حصولهم على حاجتهم من الدولارات.
أزمة مستوردي المشتقات النفطية هي أزمة كل المستوردين، وهي أزمة النموذج الاقتصادي في لبنان الذي يعتمد على الاستيراد ولا يصدّر إلا القليل، ما يجعله أكثر عرضة لمخاطر الحصول على العملات الأجنبية. هذه الأزمة بدأت تشتدّ، وكل أطرافها يشدّون الخناق من طرفهم، والكل يصيبون المستهلك.