من المبكر القول أنّ الأمور باتت مهيأة بشكل تام للتمديد لحاكم مصرف لبنان، بعد انتهاء ولايته في أواخر الشهر الحالي. إذ أنّ الضغط الدولي، وخشية معظم الأطراف السياسيّة من مواجهة الرأي العام بهذه الرغبة الدفينة، ما زالت تحول دون الشروع بالخطوات العمليّة التي تسمح بهذا التمديد. ومع ذلك، يمكن القول أنّ أسهم التمديد للحاكم ارتفعت بسرعة لافتة خلال الأيّام القليلة، مدفوعة بالضوضاء والتعقيدات التي أثارها نوّاب الحاكم، بشكل ملتبس وغير مفهوم.
عمليًا، لا يمكن الجزم بأن نوّاب الحاكم تعمّدوا الوصول إلى هذه النتيجة، بمعنى التواطؤ المقصود، لكن الأكيد هو التالي: إذا استمرّ نوّاب الحاكم بأداء الدور نفسه لغاية بداية الأسبوع المقبل، فمن المرتقب أن تؤدّي مناوراتهم إلى التمديد لرياض سلامة، خصوصًا إذا بلغت “حركة” نوّاب الحاكم حدود الاستقالة الجماعيّة كما يشيعون. وبينما تملك بعض القوى السياسيّة ما يكفي من أسباب لاشتهاء بقاء رياض سلامة، يقدّم نوّاب الحاكم اليوم أفضل الذرائع التي تسمح لهذه القوى بالإقدام على هذه الخطوة خلال الأسبوع المقبل.
نوّاب الحاكم: الضوضاء الملتبسة وغير المفهومة
كحال مرتا في إنجيل القدّيس لوقا، يهتم نوّاب الحاكم “بأمور كثيرة، فيما المطلوب واحد”. المطلوب من نوّاب الحاكم الأربعة، لم يكن سوى التالي: أن يستلم النائب الأوّل مهام الحاكم ابتداءً من بداية الشهر المقبل، في حال عدم تعيين حاكم جديد للمصرف، تمامًا كما تنص المادّة 25 من قانون النقد والتسليف. وأن يستمر النوّاب الثلاثة الآخرين بأداء مهامهم كأعضاء في المجلس المركزي، حيث لا تغيّر مغادرة سلامة أي شيء في مسؤوليّاتهم وصلاحيّاتهم.
وإذا كان نوّاب الحاكم الأربعة قد امتلكوا تحفّظاتهم على طريقة إدارة سلامة للمصرف، كما يقولون اليوم، فهم امتلكوا منذ ثلاث سنوات مطلق الصلاحيّة لفرض أولويّاتهم، بحكم امتلاكهم الأغلبيّة في المجلس المركزي لمصرف لبنان، الذي يختص بوضع السياسة النقديّة للمصرف.
وإذا كانوا يصرّون على إجراء تعديلات في هذه السياسة النقديّة، فسيمتلكون أيضًا بعد نهاية الشهر صلاحيّة تعديل ما يشتهون في آليّات عمل المصرف المركزي، وخصوصًا في ما يتعلّق بعمل منصّة صيرفة المخصصة للتداول بالعملات الأجنبيّة. ببساطة، لم يكن المطلوب من نوّاب الحاكم سوى تحمّل مسؤوليّتهم التي يحددها قانون النقد والتسليف، من دون تهويل، ومن دون ضوضاء غير مبرّرة (راجع المدن).
لكن وعلى العكس تمامًا، بدا أنّ نوّاب الحاكم ذهبوا بالاتجاه المعاكس تمامًا خلال الأيّام الماضية. في اجتماعهم مع لجنة والإدارة والعدل يوم أمس الخميس، فرض نوّاب الحاكم شروطًا شبه تعجيزيّة لأداء مهامهم، مقابل التلويح بالاستقالة في حال عدم تحقيق هذه الشروط.
ومن هذه الشروط مثلًا: إقرار موازنة العام الحالي بحلول الشهر المقبل، وتقديم موازنة العام المقبل خلال شهر تشرين الأوّل، وإقرار قانون الكابيتال كونترول خلال مهلة شهر واحد، بالإضافة إلى إقرار القوانين المرتبطة بإعادة هيكلة القطاع المصرفي وإعادة الانتظام إلى القطاع المالي بحلول شهر أيلول.
نص ركيك
ببساطة، ولكي يوافق نوّاب الحاكم على أداء مهامهم، سيكون على الحكومة والمجلس النيابي إنجاز ما لم يتم إنجازه منذ حصول الانهيار المالي، في أواخر العام 2019. ورغم أحقيّة هذا المطلب من ناحية المبدأ، يدرك نوّاب الحاكم أنّهم يطرحون شروطًا تجعل التمديد لسلامة السيناريو الأكثر واقعيّة أمام الرأي العام، كما يدركون أنّهم يطرحون شروطًا ترتبط بعمل السلطتين التشريعيّة والتنفيذيّة، لا بمسؤوليّتهم القانونيّة المباشرة كنوّاب لحاكم مصرف لبنان. أمّا المفارقة الأهم، فهي أنّ النوّاب الأربعة التفتوا إلى غياب كل هذه التشريعات الضروريّة، على أعتاب مغادرة رياض سلامة لمنصبه، بعد أن صمتوا إزاء غياب هذه التشريعات على مدى السنوات الثلاث الماضية.
في جميع الحالات، ما سمّاه نوّاب الحاكم “خطّة شاملة” لعملهم، في اجتماعهم مع لجنة الإدارة والعدل يوم أمس، لم يكون سوى نص ركيك من ثلاث صفحات، طلبوا بموجبه تعويم وتحرير سعر الصرف بحلول شهر أيلول المقبل، مع علمهم المسبق أن طلباً متسرّعاً من هذا النوع سيعني فرض تداعيات موجعة على المستوى المعيشي، وخصوصًا بالنسبة لموظفي القطاع العام. أمّا الشرط الأكثر تعجيزًا، فهو المطالبة بتشريع للإنفاق من الاحتياطي، مع مسبق علم نوّاب الحاكم أن طلبًا من هذا النوع يستحيل تنفيذه في ظل الشعبويّة التي تحكم أداء الكتل النيابيّة في المجلس، بل ومع علمهم أن تمرير ومناقشة كل هذه القوانين مستحيل في ظل الشغور الرئاسي، الذي يمنع المجلس من التشريع خارج إطار الضرورة.
في نهاية الجلسة يوم أمس، أكّد النائب الأوّل للحاكم المتوقّع والمؤكّد: لم يصل الاجتماع مع النوّاب إلى أي نتيجة، وسيكون على نوّاب الحاكم استكمال لقاءاتهم وإفادة الرأي العام بالنتيجة في بداية الأسبوع المقبل، في تلويح واضح إلى إمكانيّة امتناعهم عن أداء مهامهم كما ينص القانون. وعندها، سيُفرض شبح التمديد لسلامة على الجميع.
في جميع الحالات، تطول لائحة الأسئلة والشبهات، التي توحي بأن نوّاب الحاكم لم يحاولوا الوصول إلى حل يوم أمس، بل حاولوا التوصّل إلى المزيد من الإرباك الذي يمنع تحمّلهم لمسوؤليّتهم بعد نهاية الشهر الحالي. فعلى سبيل المثال: ما علاقة لجنة الإدارة والعدل أساسًا، لتحدد الاجتماعات معها إمكانيّة تمرير كل هذه القوانين الإصلاحيّة وبهذه المهل القصيرة؟ وما علاقة انتهاء ولاية سلامة، بفرض جميع هذه الشروط التعجيزيّة؟ وما الهدف من التهويل بتعويم سعر الصرف بشكل سريع، بدل أن يعمل نوّاب الحاكم على السياسة النقديّة الأمثل بعد انتهاء ولاية سلامة؟
ألا يدرك نوّاب الحاكم أن تعقيد المشهد على هذا النحو، وبهذا التهويل الصريح، سيمهّد للتمديد لحاكم مصرف لبنان؟ وفي هذه الحالة، ألن يتحمّل نوّاب الحاكم مسؤوليّة التجاوزات التي سيستمر الحاكم بارتكابها، إذا طلبت الحكومة استمرارهم بتصريف الأعمال بعد استقالتهم، تمامًا كما حصل منذ بداية ولايتهم ولايتهم على مدى السنوات الثلاث الماضية؟
تصاعد الحديث عن التمديد لسلامة
منذ البداية، وبعكس كل التصريحات والتسريبات السابقة، امتلك الرئيسان برّي وميقاتي الرغبة الدفينة بالتمديد لحاكم مصرف لبنان، لأسباب تتصل بالدور الذي يؤدّيه داخل المصرف المركزي، وبالمسؤوليّات والتجاوزات التي ما زال يوافق على تمريرها في هذا الوقت بالذات. ولذلك، جاءت الضوضاء التي أثارها نوّاب الحاكم خلال الأيّام الماضية كحجّة مثاليّة، لإعادة تحريك فكرة التمديد لحاكم مصرف لبنان، ولتسويقها بحجّة الحفاظ على الاستقرار النقدي في البلاد.
وعلى هذا الأساس، تحرّكت منذ بداية الأسبوع اتصالات عين التينة مع بكركي، التي أبدت تفاعلًا إيجابيًا مع فكرة التمديد لسلامة، من بوّابة الخشية من حصول الفراغ في الموقع الماروني أولًا، وبهدف تلافي الخضات النقديّة التي يمكن أن تنتج عن غياب الحاكم.
وبالتوازي مع هذه الاتصالات، عاد العمل على تسويق الفكرة إعلاميًّا، على ألسنة الخبراء المقرّبين من مصرف لبنان، ومن زاوية التصويب على السيناريوهات الخطيرة التي يمكن أن تنتج عن تطبيق “خطّة” نوّاب حاكم مصرف لبنان. وهنا، جاء التهويل التي صاحب الحديث عن وقف عمل منصّة صيرفة، ليزيد من المخاوف تجاه مستقبل الوضع النقدي بعد غياب حاكم مصرف لبنان.
أداء نوّاب حركة أمل في المجلس النيابي، تكامل يوم أمس مع هذا المشهد، بعد أن حضر معظمهم اجتماع لجنة الإدارة والعدل مع نوّاب الحاكم، وبعد أن أبدوا الكثير من الحرص على مواكبة النقاش وتسليط الضوء على هواجس نوّاب الحاكم الأربعة. وبهذا الشكل، بدا أن نوّاب حركة أمل مهتمّين بغسل يد النائب الأوّل بالتحديد من دم التمديد لحاكم مصرف لبنان، عبر التمهيد لاستقالته في نقاشات المجلس النيابي، من خلال تسليط الضوء على السجالات والخلافات القائمة.
في كل الحالات، وبحلول بداية الأسبوع، من المفترض أن تتضح جيّدًا نوايا فريق نوّاب حاكم مصرف لبنان، وتحديدًا إذا ما أفضت حركتهم الأخيرة إلى استقالتهم من مناصبهم، كما يلوّحون اليوم. وفي هذه الحالة، سيكون لبنان أمام إشكاليّات قانونيّة جديّة، إذا ما قرّر رئيس الحكومة ووزير الماليّة السير بفكرة التمديد لحاكم مصرف لبنان، خصوصًا أنّ النصوص القانونيّة المتاحة لا تسمح بتمديد تقني من هذا النوع. وبذلك، قد يكون لبنان أمام حاكم مختلف على شرعيّته، على رأس المصرف المركزي، بعدما بات هذا الحاكم نفسه متهمًا بجرائم شائنة في المحاكم الأجنبيّة، وهو ما سيزيد من سوداويّة المشهد على مستوى مصداقيّة إدارة المصرف المركزي.