يضجّ المشهد اللبناني بأفكار وطروحات تتعلق بحل الازمة التي دخلت عامها الخامس من دون اي افق منظور. اذ ان المطروح هو استكمال للانحرافات التي اسست بداية للأزمة أي مخالفة قوانين وأنظمة ومعايير نقدية ومصرفية ثابتة ومتعارف عليها دولياً، ما يشي باستمرار الازمة عملاً بما قاله العالم الشهير اينشتاين في يوم من الايام من عدم امكانية حل اي مشكلة بنفس نوع التفكير الذي تسبب بها.
فاستعراض غالبية الافكار المطروحة يظهر تحريفها بشكل غير مسؤول مسلمات وبديهيات مستقرة لا تقبل اي تأويل. أهمها «مفهوم الوديعة المصرفية» التي اوضحت الاسباب الموجبة لقانون النقد والتسليف في مقدمة شرحها لقواعد تسيير عمل المصارف ان الاخيرة ملتزمة قانوناً بردها لصاحبها كما لو ان الاخير يسحبها من صندوقه الخاص.
لا حماية فعلية
مستشار رئيس الحكومة سمير ضاهر اعتبر في حديث له لـ»نداء الوطن» بتاريخ 1 أيار 2023 ان الوديعة بتعريفِها المالي هي «دينٌ غير مضمون» unsecured credit لا حماية فعلية له خارج ما قد تُؤمِّنه أنظمةُ ضمان الودائع كمؤسسة ضمان الودائع في لبنان، في تجاهل تام لأهمية الاحكام التي ينص عليها قانون توقف المصارف عن الدفع والتي تقضي بتنحية وعزل رئيس وأعضاء مجلس ادارة المصرف الذي يتوقف عن الدفع، بالاضافة الى مفوضي المراقبة وسائر الاشخاص الذين تولوا ادارة أو مراقبة أعمال وحسابات المصرف أو التوقيع عنه خلال فترة سابقة لتاريخ التوقف عن الدفع. مع حجز اصولهم وأموالهم المنقولة وغير المنقولة كافة لأجل ضمان المسؤوليات التي قد تترتب عليهم بعد رفع السرية المصرفية عن حساباتهم. والاحكام السابقة سبق للرئيس الفرنسي Vincent Auriol ان هدد بمثيل لها فكانت النتيجة تسارع عدد من المصارف الفرنسية التي تعثرت في ايامه الى اعادة تكوين مراكزها المطلوبة بوقت قياسي، اما الرئيس الايسلندي Grímsson فلم يكتف بالتهديد بل وضعه موضع التنفيذ وزج بعشرات المصرفيين في السجن وكانت النتيجة استرداده اموالاً ضخمة من حساباتهم وممتلكاتهم في داخل البلاد وخارجها.
التزامات وليست خسائر
في المقابل اعتبر رئيس لجنة المال والموازنة ابراهيم كنعان في كلمة القاها في 21 آذار 2024 بمناسبة إطلاق «لجنة الشؤون المصرفية وحماية حقوق المودعين» من نقابة المحامين في بيروت «ان الودائع التزامات وليست خسائر» وانه سبق له «ان اعترض على شطب الودائع المصرفية لقاء تمليك أصحابها سندات أو أسهماً في قطاع مصرفي مفلس وفي مصارف انعدمت الثقة بها». مذكراً بما خلصت إليه لجنة تقصي الحقائق التي شكلتها لجنة المال والموازنة بعد اندلاع الازمة عن مسؤولية المصارف ومصرف لبنان. والاخير لم يدق ناقوس الخطر مما شجع الحكومة على التمادي في الاستدانة من دون سقوف»، وختم: «إلى من يرغب في برنامج جاهز للإصلاح، فتوصيات لجنة المال منذ عام 2010 وحتى اليوم هي السبيل إلى ذلك». وكان المقرر الخاص المعني بمسألة الفقر المدقع وحقوق الانسان Olivier De Schutter قد اشار في الفقرة 50 من تقريره الذي رفعه الى مجلس حقوق الانسان في الامم المتحدة الى «انه في الوقت الذي تدقق فيه عادة اللجان والمجالس النيابية في عمل المصارف المركزية المستقلة لم تسائل لجنة المال والموازنة ( والتي يرأسها كنعان) قط قيادة مصرف لبنان بشأن ممارساتها الشاذة…».
الدستور لا يحمي الوديعة
الإنحراف الأخطر أتى من جانب الوزير السابق لشؤون تكنولوجيا المعلومات عادل افيوني الذي ذكر في مقابلة اجرتها معه «نداء الوطن» في 4 اذار 2024 «ان الدستور لا يحمي الوديعة… هو يحمي الملكية هذا صحيح. لكن هذا الامر لا يسري على الودائع». واضاف «يجب ان يكون هناك تمييز بين المودعين العاديين والمستثمرين المحترفين الذين وضعوا أموالهم في المصارف اللبنانية بالرغم من معرفتهم بحجم المخاطر. إذ ليس من العدل اعادة ودائع هؤلاء كاملة من اموال الشعب اللبناني. بالمعايير المالية… يمكن لكل مصرف التمييز بين المودعين عند فتح الحساب سواء أكان مودعاً محترفاً يعرف بالمخاطر المالية ولا تتحمل الدولة مسؤولية تجاهه وآخر مودع عادي».
المودع المستثمر
الكلام الاخير يتماهى مع ما طرحه القائم بمهام حاكم مصرف لبنان د منصوري في مقابلة صحافية على هامش اجتماعات الربيع لصندوق النقد والبنك الدوليين من ضرورة تقسيم الودائع بشكل أفضل بما يتناسب لكل فئة من فئاتها. وإحدى هذه الفئات سيُعامل أصحابها بصفتهم مستثمرين بدلاً من كونهم مودعين. وبالتالي، ستتم إعادة أموالهم على أساس طرق مالية يفهمونها ويقبلون بها.
سندات دين
وكانت الخبيرة المصرفية كارول عياط من بنك عوده قد طرحت على الرئيس ميقاتي ود. منصوري فكرة بلورها مشروع الحكومة الاخير لهيكلة المصارف وردّ الودائع تقضي بإصدار سندات دين بفوائد او بلا فوائد تستحق بعد عقدين او ثلاثة عقود من الزمن لرد فئة الودائع التي تتجاوز المئة الف دولار وبعد معالجات وتقسيمات معينة للودائع.
واضح ان التحريفات السابقة وغيرها لمفهوم الوديعة، طورت باعتبارها «ديناً غير مضمون» (ضاهر) وطورت باعتبارها «مجرد التزام؟ « (كنعان)، و احياناً «بعدم اعتبارها ملكية محمية بالدستور» ( افيوني) او توصيفها «بانها من قبيل الاستثمار» (افيوني ومنصوري) واخيراً امكانية «استبدالها بسند دين» (عياط) كلها اقتراحات وتوجهات تخالف ليس فقط الدستور اللبناني بل آخر التطورات الدستورية الحديثة.
عدم جواز نزع الملكية
فالدستور اللبناني واضح في مقدمته بضمان «الملكية الخاصة» كما ان المادة 15 منه تقضي بعدم جواز نزع ملكية احد الا لأسباب المنفعة العامة وفي الاحوال المنصوص عليها في القانون وبعد تعويضه تعويضاً عادلاً.
ايضا تتبع التطورات الدستورية لمفهوم الملكية يظهر انها انطلقت في البداية من نجاح الثورة الفرنسية بالقضاء على النظام الإقطاعي الذي كانت فيه الأرض وسيلة للاستعباد. وقد ترجم شعار الحرية الذي نادت به الثورة بعدم امكانية حرمان اي شخص من ملكيته لارضه. لاحقاً حرر المجلس الدستوري نفسه من حصرية حماية ملكية الارض وتجنب مصادرتها غير المشروعة الى الاقرار بحماية ملكية الاشياء المنقولة، توصلاً الى حماية ملكية الاشخاص المعنوية للعقارات والاشياء المنقولة فاخيراً الى حماية ملكية الافراد والاشخاص المعنوية للديون la propriété des créances كالاسهم والودائع المصرفية، وايضاً لحقوق قانونية متنوعة اخرى كملكية براءة الاختراع وغيرها… وذلك على اساس ان الديون تدخل في الذمة المالية وتستحق الحماية باسم احترام حقوق الملكية حسب قرارات محكمة التمييز والمجلس الدستوري الفرنسيين والمحكمة الاوروبية لحقوق الانسان في Strasbourg حيث ترددت هذه الفقرة في تلك القرارات مراراً tout intérêt patrimonial serait l’objet d’un droit de propriété. وكانت الفكرة البسيطة والجذابة التي فرضت ذاتها بقوة الوضوح في هذه القرارات هي التالية: طالما انه بامكاني بيع منزلي لأنني أملكه، فانه بامكاني نقل دين لصالحي او التنازل عنه لأنني المالك أيضاً لهذا الدين. وقد تقدمت هذه الفكرة على النظرية التقليدية التي تقول ان الملكية الحقيقية هي فقط للحقوق العينية التي تمارس على الاشياء وليس للحقوق الشخصية اي الالتزامات التي تمارس على الآخرين، ولو كانت حقوقاً متصلة بالعقارات كحق الانتفاع والارتفاق والرهن العقاري.
إطّلاع المستثمر
كذلك لا يستقيم تمييز المودع الكبير عن الآخرين واعتباره من فئة المستثمرين فقط على اساس تقاضيه معدل فائدة أعلى يشمل علاوة المخاطرة. فالاستثمار بمفهومه الصحيح يتطلب ان يكون المستثمر على اطلاع كاف على مجال التوظيف الذي يقوم بتوظيف امواله فيه. وهذا غير متوفر في المصارف اللبنانية التجارية غير المصنفة من قبل مصارف التسليف المتوسط والطويل الاجل، ومفوضي المراقبة لم يلحظوا في تقاريرهم عن بياناتها المالية المخاطر الحقيقية التي تحيط بعملياتها على الاخص مع مصرف لبنان حيث اودعت اياه حوالى 80% من ودائعها والاخير تخلف عن نشر تقارير سنوية عن اعماله لمدة عشر سنوات ابتداء من العام 2005. كما لم ينشر ابداً تقريراً خاصاً عن عملياته كما تطالب بذلك المادة 117 من قانون النقد والتسليف
تحصيل تعويض
ايضا لا يستقيم الكلام عن مشروع ابدال الوديعة او دينها بسندات دين بفوائد او بدونها تستحق لسنوات اطول بكثير من اجل الوديعة ايا كانت الهيئة المصدرة لهذه السندات. فالمادة 15 من الدستور واضحة بان تعويض نزع الملكية لا يكفي ان يكون عادلاً ( اي ان يبلغ مقدار الوديعة ولواحقها والضرر المتأتي من عدم امكانية استردادها في الوقت المناسب كما تطالب به بحق لائحة ادعاء المودعين في الولايات المتحدة ). بل يجب ان يحصل التعويض العادل ولو بسند دين مسند الى اصول مقومة قبل نزع الملكية وهذا ما هو ليس متوافراً باقتراح ابدال الوديعة بسند دين غير مسند الى اي اصول مقومة ومبرئ مع ذلك للذمم وللمسؤوليات.
صفوة القول
الأفكار المطروحة لاسترجاع الودائع لا تستقيم مع الشعارات التي تتحدث عن «قدسية» هذه الودائع فهذه الافكار تنتهك بغالبيتها هذه القدسية بصور متعددة وفاقعة متماهية مع ما يحصل بالنسبة لشعارات مقدسة ترفع في قضايا اخرى في المجتمع اللبناني ويعرف المواطن المستنير كيف يتم الاخلال بحرمتها ولأية غاية يتم التستر من ورائها.