منذ عقود، ورغم الحروب والانقسامات، ظلّت الصناعة اللبنانية صامدة، درعًا غير مرئي أمام الصدمات التي تهبّ على وطنٍ ينهكه كلّ من استطاع إلى ذلك سبيلًا. واليوم، ونحن نواجه ألغام الانهيار المالي والسياسي والاجتماعي، وتبعات الحرب المدمّرة، تتلقى الصناعة اللبنانية الضربات المتتالية من كلّ الجهات: ضرائب ورسوم غير مدروسة، إهمال رسمي، منافسة غير شرعية، بيروقراطية خانقة، وتخلّ فاضح من الدولة عن دور الحارس والضامن للمنتِج الشرعي.
مَن المستفيد من الإساءة إلى القطاع الصناعيّ؟ مئات الآلاف من العائلات تكدُّ طوال الليل والنهار لتصنع وتبتكر، لكن يبدو أن من ينهشها هم أولئك الذين يعيشون ويستفيدون من مشاكلها وعدم نهوضها، ولديهم مآرب أخرى.
الصناعة في أرقام
رغم الأزمات المتلاحقة، لا يزال القطاع الصناعي أحد أعمدة الاقتصاد اللبناني. فبحسب البنك الدولي (تقرير كانون الأول 2024)، انكمش الاقتصاد اللبناني بنحو 6.6 % عام 2024، مع خسائر تراكمية تجاوزت 40 % منذ 2019.
لكن الصناعة بقيت من بين القطاعات القليلة التي واصلت الإنتاج والتصدير، ويتوقع البنك نموًا بنسبة 3.5 % في 2025 بعد انكماش بلغ 7.1 % عام 2024، علمًا أن عدد المؤسسات الصناعية النشطة بلغ نحو 18,500منشأة عام 2024، معظمها مصانع صغيرة ومتوسطة تتمركز في جبل لبنان بشكل أساسي 25 %، زحلة، البقاع، الشمال، والجنوب.
المنتج اللبناني مرغوب عالميًا
تشير بيانات وزارة الصناعة وتقارير “بلوم إنفست” إلى أن الصادرات الصناعية بلغت نحو 2.7 مليار دولار عام 2024، بتراجع 9.6 % بسبب الحرب، فيما بلغت الواردات 16.9مليار دولار، أي أن العجز التجاري استقرّ عند 14.2 مليار دولار.
ورغم هذه التحدّيات، فإن الحفاظ على صادرات تفوق ملياري دولار وسط أزمة مالية خانقة وانقطاع تمويل المصانع يُعدّ إنجازًا بحدّ ذاته. حيث شكّلت المنتجات الصناعية أكثر من 55 % من إجمالي الصادرات التي تتركز أساسًا في عدد محدود من القطاعات ذات القيمة العالية.
كما تشير بيانات Trading Economics إلى أن أهم الأسواق المستوردة من لبنان هي الإمارات، مصر، العراق، تركيا، السعودية، والولايات المتحدة التي استوردت ما يفوق 268 مليون دولار عام 2024.
أما أبرز الصادرات، بحسب OEC، فهي المجوهرات (17 %)، المركبات المجمعة وقطع الغيار (15 %)، الآلات والمعدات الكهربائية (9 %)، والمنتجات النفطية والمعدنية (9 %)، إلى جانب المنتجات الغذائية والبلاستيكية والعطرية بنسبة تتراوح بين 2 إلى 5 %. أما الآلات الميكانيكية فتمثل 5 إلى 6 %، ثمّ المنتجات الغذائية والزراعية (الفواكه، المكسرات، المعلبات) نحو 4 إلى 5 %، إضافة إلى النبيذ اللبناني المشهور عالميًا.
العمالة الصناعية: نزيف وصمود
قبل الأزمة، كان القطاع الصناعي يؤمّن نحو 20 % من الوظائف في لبنان (قرابة 320 ألف عامل). لكن تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP – في تموز 2025 أشار إلى أن 15 % من المؤسّسات الصغيرة أغلقت نهائيًا، فيما 75 % علّقت نشاطها موقتًا بسبب الحرب ونقص التمويل.
ورغم ذلك، تستمرّ مئات المصانع في الإنتاج بأجور مموّلة بالدولار النقدي، لتحافظ على شريان الحياة الصناعية والاستمرار والصمود.
تعاني الصناعة من معوّقات مزمنة، يمكن اختصارها بالنقاط التالية:
1.كلفة الطاقة والبنى التحتية
تدفع الصناعة اللبنانية وقطاعات الإنتاج الفاتورة الأعلى في المنطقة بين 25 و 40 سنتًا للكيلواط/ساعة مقابل أقل من 4 سنتات في تركيا ومصر. أضف إليها المولّدات الخاصة التي باتت حلًا يثير الريبة في تيسيره بل وجعل كلفة فاتورته أقل من فاتورة شركة كهرباء لبنان، والاستجابة السريعة لأي زيادة في أسعار الوقود دون أن تصحبها أي استجابة عند انخفاضه، كما تحميل كلفة إنتاج الكهرباء على الصناعي الشرعي والقانوني بدل المساواة في التعاطي مع اللبنانيين. هذا الاختناق المصحوب بتلوّث كبير على كافة الصعد، يُحوّل كلّ مصنع شرعي إلى كومة من التكاليف الإضافية، وعند مراجعة المعنيين بالسبب، كان الجواب: إنكم الوحيدون القادرون على الدفع إذ إن غيركم غير قادر!! نعم إنه العجب ..
2.التمويل والسياسات المالية
منذ انهيار النظام المالي في 2019، باتت البنوك مقيّدة ولا تمنح قروضًا صناعية ميسّرة، دون إعطاء أي وعد أو خطة أو رؤية لكيفية حلّ هذا الموضوع أو جدولته. في المقابل، تمارس وزارة المالية سلطتها المطلقة في تشريع جباية الضرائب والرسوم وازدواجيتها بين البلديات والوزارات بشكل غير قانوني وعشوائي وغير مرتبط بأي خطة اقتصادية تنموية أو رؤية استثمارية مدروسة، ولن يكون الحلّ الاقتصادي إلّا عبر التمويل بالنموّ لا العجز بشكل مستدام يحمي النقد الوطني ويعيد الثقة بالليرة ويحسّن القوّة الشرائية للأفراد، وإلّا ستظل المنافسة غير عادلة إطلاقًا، لا لأن المنتج اللبناني ضعيف، بل لأن النظام الذي يُفترض أن يحميه هو أول من يعيقه.
3.البيروقراطية والفساد الإداري
أوراق، تواقيع، تراخيص، رسوم مضاعفة، وموظفون غائبون… فيما الاقتصاد الموازي والتهريب ينموان بلا رادع، والحاجة إلى المكننة تبقى مطلبًا ملحًا للتطوير الإداري.
4.المخاطر السياسية والجيوأمنية
التوترات الحدودية والإقليمية المستمرّة تُفقد المستثمرين الثقة وتُسرّع هجرة الكفاءات.
وأخيرًا وليس آخرًا كثيرة هي المناسبات التي يُحتفى فيها بـ “يوم الصناعة اللبنانية”، لكن المطلوب ليس الاحتفال بل الاحترام. ليكن معرض الصناعة اللبنانية، الذي ينطلق في التاسع والعشرين من الشهر الجاري، مناسبة لإعلان الفخر بالمنتج الوطني لا لتمجيد الشعارات.
لقد أثبتت الصناعة أنها ملاذ الوطن عند الأزمات، وأن القطاع العام نفسه لجأ إليها لتأمين الدخل وفرص العمل في أحلك الظروف.
لكنها دائمًا تُستنزف، والجميع يأكل من صحنها ثم “يبصق” فيه.
لذا نقول للجميع: توقفوا عن ضرب الصناعة الوطنية فقد كفاها ما كفاها، كفاها من تاجر بشهاداتها الصناعية ومنتجاتها واسمها وعمالها وأرزاقها وممتلكاتها دون أي حماية اجتماعية واقتصادية وقانونية لهم حتى من أموالهم وأموال اشتراكاتهم ورسومهم وضرائبهم.
حاربوا الفساد لا المنتجين، خففوا البيروقراطية، ومكننوا الإدارة، وأعيدوا الثقة بالمنتج الوطني والليرة اللبنانية. واتركوا الصناعة لأهلها، فهم ينسجون لنلبس، ويزرعون لنأكل، ويعصرون لنشرب.



