عند كل محطة كانت تضيق فيها السبل بالمسؤولين لتمويل الخزينة، كانوا يتجاهلون كل المصادر التي تعطينا إيرادات هائلة، وتتّجه أنظارهم نحو المواطن “الحلقة الأضعف”.
تارةً يُحكى عن زيادة الضريبة على القيمة المضافة الـ (TVA)، وتارةً أخرى يُحكى عن فرض ضرائب على البنزين. رُوّج في هذا الصدد لاقتراح فرض ضريبة ثابتة قيمتها خمسة آلاف ليرة. إلا أنّ هذا الاقتراح سُرعان ما تلقى الضربة القاضية قبل أن يُناقش حتّى، بفعل المعارضة الشديدة التي واجهته من قوى سياسية رئيسية في البلد على رأسها حزب الله، ليسقط الاقتراح أرضاً. مؤخراً، ضمّت ورقة المقترحات الإصلاحية التي تقدّم بها رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في الاجتماع الاقتصادي في بعبدا، جملة إجراءات في السياسة المالية، من ضمنها وضع حد أدنى وحد أقصى لأسعار البنزين بما يضمن حقوق الدولة وحماية المستهلك. وعلى سبيل التبسيط، كأن يُصار مثلاً الى وضع حد أدنى لصفيحة البنزين يتمثّل بـ25 الف ليرة، وحد أقصى 35 ألف ليرة. فماذا يعني ذلك؟.
الخبير الاقتصادي البروفيسور جاسم عجاقة يُشير في حديث لموقع “العهد” الإخباري الى أنّ هذا الاقتراح ذو حدين، فهو من جهة يؤمّن للخزينة الدعم إذا ما شهدنا انخفاضاً في الأسعار العالمية، ومن جهة أخرى قد يستنزف الخزينة إذا ما شهدت الأسعار ارتفاعاً. كيف ذلك؟. يشرح عجاقة أنّه في حال جرى وضع الحد الأقصى 35 ألف، فليس من واجب المواطنين دفع أي ليرة زيادة عن هذه العتبة، حتى لو بلغ ثمن الصفيحة 40 ألف. ماذا تخسر الخزينة؟. يقول عجاقة إنّ لبنان يستهلك سنوياً 100 مليون صفيحة بنزين، وكل ألف ليرة يزيد عن العتبة القصوى ستتكبّده الدولة، فمثلاً لو بلغ ثمن الصفيحة 36 ألف ستدفع الدولة سنوياً 100 مليار ليرة من ماليتها العامة. يُذكّر عجاقة كيف وصلت صفيحة البنزين في إحدى السنوات الى 38 ألف، ما قد يُشكّل مخاطرة في المستقبل على الخزينة لو تكرّر السيناريو ذاته، وهذا الأمر مرجح ـ برأيه ـ إذا ما اندلعت الحرب في الخليج مثلاً، اللهم إلا إذا وضعت الدولة الحد الأقصى 45 ألف، فقد تخف حدة المخاطرة.
وفي معرض حديثه، يرى عجاقة أنّه لا بد من إلغاء عتبة الحد الأقصى لنكون واقعيين أكثر ولتتفادى الدولة المخاطرة. ورغم ذلك، لا يذهب بعيداً في التشاؤم. برأبه، فإنّ توقعات الأسعار في أسواق النفط في السنوات المقبلة تسير نحو الانخفاض، لأسباب منها، تراجع الاقتصاد العالمي، ما يعني حتماً تراجع اقتصاد دولتين مهمتين: الولايات المتحدة الأميركية، والصين. هاتان الدولتان تستهلكان النفط بشكل كبير جداً، وبالتالي فإنّ الحرب التجارية الدائرة بينهما قد تؤدي الى تراجع الانتاج ما يعني حكماً تراجع استهلاك النفط عامي 2019 و2020. تراجع الطلب يضمن أن تصل أسعار صفيحة البنزين بسهولة الى العشرين ألفاً. عندها، نضمن أن يعود الى الخزينة ما يُقارب الخمسة آلاف من كل مواطن في حال مثلاً جرى تثبيت الحد الأدنى على 25 ألفاً. لكن في المقابل، لا يمكن التعويل على هذا الأمر كثيراً.
ورغم معارضته الشديدة لفرض أية ضريبة، وإصراره على ضرورة البدء بمحاربة الفساد قبل كل شي، يوضح عجاقة أنّه وفي حال كانت الضريبة أمراً واقعاً لا بد منه، فإنّ الحل المنطقي ـ برأيه ـ يجب أن يرسو على أمرين:
أولاً: عدم وضع حد أقصى مطلقاً، والاكتفاء بالحد الأدنى
ثانياً: اللجوء الى أسلوب الضريبة العائمة على صفيحة البنزين وهي مبدأ ينصّ على تعديل الضريبة على استهلاك المحروقات وفقًا لتغيرات سعر النفط الخام. الهدف الأساسي هو تخفيف تأثير الزيادات في أسعار المحروقات على المواطن مع حفظ حق الخزينة في حال انخفضت أسعار المحروقات. وعادة تختلف قيمة هذه الضريبة بحسب نوع المحروقات ويتم تثبيتها سنويًا في الموازنة على كل ليتر من المحروقات المستهلكة. لذا يكون تأثير تغيير أسعار النفط ضئيلًا على المواطن على عكس الضريبة على القيمة المضافة التي تتغيّر ميكانيكيًا مع تغيّر أسعار النفط العالمية.
وبحسب عجاقة، تنصّ الآلية على تعديل هذه الضريبة بشكل يُعوض الخسارة على خزينة الدوّلة جرّاء التغييرات في الضريبة على القيمة المضافة (نتيجة تغيّر سعر النفط العالمي). فعند ارتفاع سعر النفط عالميا يتمّ خفض الضريبة العائمة وعند انخفاض سعر النفط عالميا يتمّ رفع الضريبة العائمة لتعويض الخسائر على خزينة الدوّلة نتيجة عدم تطبيق الضريبة على القيمة المضافة.
يطرح عجاقة رؤيته للحل انطلاقاً من ضرورة عدم تكبيد المواطن كثيراً وعدم تحميل الخزينة أكثر من طاقتها، فكل قرش يزداد مديونية على الخزينة سيدفعه تلقائياً المواطن لاحقاً. ويُدلّل المتحدّث على نقطة يعتبرها مهمة جداً، فعندما تفرض الدولة الضريبة على البنزين، يجب أن لا تأخذ في الحسبان الشق المالي فقط، بل عليها النظر إلى أبعاد أخرى، كمساهمة هذا الأمر في التخفيف من زحمة السير مثلاً، يختم عجاقة.