تعد صناعة الإسمنت في كل دول العالم من الصناعات الاستراتيجية لما تمثله من أهمية كبرى في مشاريع الإعمار والتطوير العقاري. في لبنان يتكون قطاع الاسمنت من ثلاث شركات مصنعة، بعضها يعمل منذ ما قبل الاستقلال. ومع أن هذه الصناعة تعتبر الصناعة الثقيلة الوحيدة محلياً ، إلا أن تقاعس الدولة عن تنظيمها بجدية أدى إلى تداخل المقالع والمصانع العائدة للشركات الثلاث مع القرى والمناطق السكنية، والى تلوث بيئي واسع النطاق شكل خطراً على الصحة العامة، بالإضافة إلى صدامات بين الأهالي من جهة والعمال والصناعيين من جهة أخرى، معطوفة على أزمة ثقة متفاقمة وعميقة بين المواطنين والدولة، جعلت هذا الملف، من نواحي عدة، من الملفات البالغة التعقيد في وزارة البيئة.
تقوم صناعة الاسمنت على ثلاث مراحل، تبدأ باستخراج المواد الخام من حجر جيري وصلصال وغيرها من المقالع، تليها مرحلة تصنيع حجر الاسمنت الخام أو الكلينكر في أفران ذات حرارة مرتفعة تعتمد على الفحم الحجري أو البيتكوك أو غيره كمصدر للطاقة، ومن ثم يطحن الكلينكر مع الجفصين ومواد محسِنة أخرى ليصبح جاهزاً للتعبئة. وينتج عن مراحل التصنيع هذه غبار وتشوه واسع النطاق في مواقع الحفر وتأثيرات محتملة على المياه الجوفية وانبعاثات سامة من دواخين الأفران ووحدات الطحن وانتاج الطاقة.
في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية أو ما سمي بإعادة الإعمار، أصدر مجلس الوزراء قراراً استثنائياً في أيار 1997 سمح بموجبه للشركات الثلاث بالاستثمار في المقالع العائدة لها لمدة عشر سنوات، أي لغاية أيار2007. بالتوازي، صدر عام 2002 المرسوم رقم 8803 لتنظيم المقالع والكسارات، وقد تضمن إنشاء المجلس الوطني للمقالع وجعله الجهة الصالحة حصراً للنظر بطلبات الاستثمار وإعادة التأهيل وفقاً لخريطة مرفقة تعتبر حالياً بمثابة مخطط توجيهي للمقالع والكسارات في كل لبنان. إلا أن المرسوم أعلاه، كما تعديلاته، لم يشمل مقالع الشركات الثلاث من ضمن المخطط التوجيهي، كما لم يعطها استثناءً أسوة بمقالع الحجر التزيني او محافر الرمل الصناعي. وعليه، دأبت الشركات الثلاث على العمل في المقالع العائدة لها دون تراخيص، وفق مهل إدارية تصدر عن وزارة الداخلية خلافاً للأصول ومن دون أي إطار قانوني. هذا مع العلم أن هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل كانت قد وصفت هذه المهل بالقرارات الإدارية المعدومة الوجود (عدد 334/2005 تاريخ 19/5/2005). وبالإضافة الى عدم وجود أي مظلة قانونية للترخيص لمقالع شركات الترابة، فإن الشركات تعمل وفق معايير بيئية بدائية وقديمة قد عفا عليها الزمن، بعضها يعود لما قبل العام 1997، أي مضى عليها ما يزيد عن 25 عاماً.
هذا من الناحية القانونية، أما من الناحية الاقتصادية، فإن الشركات تعمل ضمن سوق محلي محمي، لا يسمح باستيراد الاسمنت إلا بموجب أذن مسبق من وزارة الصناعة. في المقابل، يُسمح للشركات الثلاث بالتصدير من دون أي أذونات مسبقة ومن دون تحديد أي أسقف للكميات المصدرة. علاوة على ذلك، يُحدد سعر طن الترابة المصنع محلياً بشكل اسبوعي من قبل وزارة الصناعة بعد التشاور مع الشركات. وعليه فإن سوق الاسمنت، في بلد صغير المساحة كلبنان يعتمد اقتصاده نظام السوق الحر ويرتكز بشكل كبير على السياحة، يخالف مبدأ التنافسية، مما يعرض المستهلك للاحتكار ولاستغلال سوق سوداء كما جرى مؤخراً، ويعمل بطريقة غير مستدامة، وبدون أي رقابة فعلية أو ضوابط، فيما تتغاضى الدولة عن استنزاف جزء أساسي من رأس مالها الطبيعي بما يفوق حاجة السوق المحلي. أمام هذا الواقع، فإن السؤال الأساس هو هل يجب حظر هذه الصناعة أم تنظيمها؟ وكيف يمكن رفع الضرر الذي قد تتسبّب به؟
تعتمد مقاربة وزير البيئة ناصر ياسين لهذا الملف على خارطة طريق مبنية على ثلاثية تعزيز الصحة البيئية والحفاظ على الصناعة المحلية وحماية المستهلك. وفقاً لهذه المقاربة، ومنعاً للمزيد من المهل الإدارية، عمل الوزير على استصدار قرار مجلس الوزراء رقم 5 تاريخ 15/2/2022، أعاد التأكيد بموجبه على دور المجلس الوطني للمقالع في إعطاء التراخيص، ووضَع ضوابط للكميات المستخرجة ومعايير بيئية صارمة لعمل الشركات. وتطبيقاً للقرار المذكور، بادر وزير البيئة بالتعاون مع فريق تقني وخبراء، وبالتشاور مع وزير الصناعة، إلى توقيع سلسلة قرارات، اشتملت على منع أي زيادة في مساحات المقالع الحالية المحفورة، وهذا يحدث لأول مرة في تاريخ القطاع، ومنع الحفر في قمم الجبال، وانشاء عازل نباتي أخضر حول المنطقة المحفورة، وتحديث نوعي لمعايير إعادة التأهيل المعمول بها منذ أكثر من ٢٥ عاماً، ومنع تغيير وجهة استعمال العقارات المؤهلة لمدة ١٠ سنوات من تاريخ انجاز أعمال إعادة التأهيل، وهذا يطبق لأول مرة. كما قام وزير البيئة باعتماد قيم حدية جديدة (Emission Limit Values) ومحدثة لتخفيض الانبعاثات السامة من المصانع، تطبق على مرحلتين ابتداءً من شباط 2023 من ضمن القرار 16/1 تاريخ 10/2/2022، وتأخذ بعين الاعتبار المعايير الأوروبية والأميركية وتركيبة المواد الخام المحلية،. بالتوازي، وقع الوزير قراراً جديداً حدد فيه آليات المراقبة البيئية لصناعة الاسمنت بشكل عملاني ومفصل، من ضمنها آليات لرصد انبعاث وترسب الغبار من المقالع للحد من أثره على المحيط، وهذا سوف يطبق لأول المرة، ورصد مستمر لانبعاثات المصانع مع تصور واضح وحل تقني لكيفية الحصول على البيانات الخام مباشرة، وآلية لمراقبة وضبط كميات الحفر تعتمد مسح جوي ثلاثي الأبعاد بشكل دوري، بالإضافة لمراقبة عمليات إعادة تأهيل المواقع المستثمرة. كما تضع القرارات الموقعة من قبل الوزير عبء تمويل المراقبة البيئية على كاهل الشركات، على قاعدة الملوث يدفع، عبر إلزامها ايداع ضمانة نقدية تُستعمل لتلزيم دراسة التقارير والكشوفات المیدانیة الدورية من قبل طرف ثالث متخصص ومستقل، ومن دون أن يكون للشركات أي دور في التلزيم.
بالإضافة الى كل ذلك، طالب وزير البيئة عبر كتاب خطي موجه لجميع المعنيين بفتح باب الاستيراد تعزيزاً للتنافسية واحتراماً لنظام الاقتصاد الحر. في نفس الوقت، أنجزت وزارة البيئة بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي دراسة حول مستحقات قطاع المقالع للخزينة، وذلك استناداً إلى المسح الميداني الذي أجرته مديرية الشؤون الجغرافية في الجيش اللبناني، وقد تم مؤخراً الاتفاق مع وزراء العدلية والمالية على آلية لتحصيل هذه المستحقات، ومن ضمنها 210 مليون دولار من قطاع الاسمنت بدل كلفة التدهور البيئي وكلفة إعادة تأهيل المواقع المستثمرة، وذلك عما يقارب 30 مليون متر مكعب من الكميات المستخرجة ما بين سنة 2007 و 2021.
في المحصلة، عملت وزارة البيئة مع شركائها بشكل منهجي وعلمي خلال تسعة أشهر فقط على تنظيم فوضى عمرها ما يقارب التسعون عاماً، في قطاع حيوي وأساسي لأي تعافٍ أو نهوض اقتصادي. وتعمل الوزارة حالياً على وضع معايير جديدة لنقل وتخزين واستخدام مادة البيتكوك ووضع تصور لكيفية استبدالها. كما تتعاون الوزارة مع البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية (EBRD)على مواءمة صناعة الاسمنت في لبنان مع اتفاقية باريس للحد من انبعاثات الغازات الدفيئة، وذلك من ضمن مساهمتها في مكافحة ظاهرة التغير المناخي.
أما على المدى الطويل، وفي أعتاب عهد جديد، فإن الحل المستدام يكمن في التعاون بين المجلس النيابي والحكومة المقبلة للوصول إلى قانون عصري ينظم جميع الصناعات الاستخراجية ومن ضمنها الاسمنت، يحترم الخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية ويعتمد مبدأ التعافي الأخضر، فيحمي البيئة ويعزز التنمية المستدامة ويؤمن ايرادات إضافية للخزينة من جيوب الملوثين.