يواجه قطاع التوابل، الذي ظل في الكثير من الأوقات خلال الأزمات بعيدا عن الأنظار، محنة لم تكن في الحسبان جعلت الكثير من التجار يتذمرون بسبب التضخم الذي طرد المستهلكين وقلص أعمال التجار.
ويعتبر إنتاج وتجارة التوابل والبهارات من الصناعات المهمة المربحة، بالنظر إلى أرقام نموها وتصاعد الطلب عليها، حيث تنشط في المجال الآلاف من الشركات المتخصصة في إنتاج وتجارة وتعليب هذه المواد، كما أنها تسهم في توفير الملايين من الوظائف.
وبما أن الهند أكثر الدول استهلاكا للبهارات في أطباقها التقليدية ثم تأتي بعدها المجر وإسبانيا والصين وكوريا الجنوبية ودول الكاريبي وأيضا البعض من الدول العربية، يشعر التجار في هذه الدول بتداعيات التقلبات العالمية عليهم.
ويؤكد تاجر، وهو يشير إلى الأرفف الممتلئة بالتوابل داخل متجره في سوق سانيونلي الشهير ببكين، أن “الأسعار آخذة في الارتفاع”، بدءا من المواد الخام وصولا إلى كلفة النقل وأجور العاملين. كما أدت جائحة كورونا إلى حدوث أزمة في سلاسل الإمداد.
ويوضح التاجر، لم تذكر وكالة الأنباء الألمانية هويته، أن الكلفة في مجال إنتاج التوابل واصلت الارتفاع بشكل مستمر في الصين خلال العامين الأخيرين.
وقال “خذ كلفة الشحن البحري، مثلا، ستجد أن أسعار شحن الحاويات المتجهة إلى أوروبا زادت بمقدار خمسة أمثال بحلول منتصف عام 2022، مقارنة بفترة ما قبل الجائحة، كما زادت التكاليف بأكثر من ضعف هذا المستوى بحلول نهاية العام الماضي”.
والهند هي أكبر منتج ومستهلك ومصدر للتوابل في العالم، إذ تنتج نحو 75 من أصل 109 نوعا مدرجا من قبل المنظمة الدولية للتوحيد القياسي مثل الهيل والفلفل الحار والفلفل الأسود والكمون والكركم والقرفة والكزبرة، وتمثل نصف التجارة العالمية للقطاع.
وفي الغالب لا يقوم تجار التجزئة، وخاصة في أسواق أوروبا التي تتجه إليها معظم شحنات التوابل، بتمرير زيادة الأسعار إلى المستهلكين.
ويحاول المستهلكون في ألمانيا على سبيل المثال حاليا أن يدخروا أموالهم، بسبب الكلفة المتزايدة للمعيشة، التي نتجت من بين أسباب أخرى عن أزمة الطاقة الأوروبية.
ورغم أن الناس باتوا مغرمين بالطهو في منازلهم أثناء تفشي الجائحة، وهو نشاط كان يتم خلاله استهلاك قدر كبير من التوابل، فإن الكثير منهم يعودون الآن مرة أخرى إلى المطاعم، تاركين تجارة التوابل في مأزق.
وتقول إحدى الرابطات الألمانية لتجارة التوابل، التي يقدر حجمها عالميا بحوالي 4 مليارات دولار حاليا، ومن المتوقع أن تصل إلى 7 مليارات دولار بحلول 2027، إن هذه الصناعة تمر بأزمة اقتصادية شاملة لم تشهد مثلها من قبل.
وتوضح الرابطة أنه يوجد نقص عالمي في الأسمدة والتوابل الخام وأيضا تراجع في الطلب، بالإضافة إلى ذلك يناضل تجار التجزئة لاستيعاب الكلفة المتزايدة في قطاعات الطاقة والنقل والتعبئة، وهذه العوامل كلها تجعل الإنتاج في وضع مضطرب.
ورغم هذه المحنة يتوقع خبراء شركة موردر إنتلجينس أن تنمو سوق التوابل العالمية بمعدل نمو سنوي مركب يبلغ 4.7 في المئة حتى العام 2025.
وتتابع الخبيرة لاورا برانت من شركة يومي أورجانيكس الألمانية للتجارة النزيهة للتوابل مدى استجابة المتسوقين لاتجاه زيادة الأسعار.
وتستشف برانت من خلال المتجر الخاص بها أن الزبائن يشترون ما يعتقدون أنه مناسب لقدرتهم الشرائية، وتقول “انخفض الطلب مؤخرا بشكل ملحوظ”.
وتستورد شركة برانت التوابل من سريلانكا، التي تعاني من نقص في الأسمدة، حتى قبل أن تبدأ روسيا الحرب على أوكرانيا، وحاولت الحكومة دون جدوى أن تحول كل مزروعاتها إلى الزراعة العضوية، حيث لم تكن هناك فترة انتقالية كافية.
وبينما تزايد مخزون التوابل في هذه الدولة، بدأت الحرب في أوكرانيا. ثم ضربت العقوبات الغربية المفروضة على روسيا الواردات الأساسية من الأسمدة القادمة من بيلاروسا، وهي إحدى الدول الحليفة المهمة لموسكو، وفق سارادا دي سيلفا رئيس الرابطة المحلية للتجار في مجلس التوابل.
وفوق ذلك كله تأتي كلفة النقل، حيث ارتفع الشحن البحري ليصل إلى 20 ألف دولار، بعد أن كانت تبلغ قبل الحرب الأوكرانية أربعة آلاف دولار.
واستوردت ألمانيا عام 2021 معظم احتياجاتها من الأعشاب العطرية والتوابل، مثل الفلفل الحار والفلفل الحلو (البابريكا)، بحرا من الصين.
وتعد مدغشقر ثاني أهم مصدر تستورد منه ألمانيا التوابل، حيث تستورد إمدادات حبوب الفانيلا والقرفة، وتأتي بعدها كل من فيتنام والبرازيل وإندونيسيا والهند.
وتحمّل المستهلكون في العديد من الأسواق العالمية تبعات زيادة الأسعار، ورغم ذلك فإن التكاليف المرتفعة التي يواجهها مزارعو التوابل يتم تعويضها بشكل محدود.
ويقول يوليوس فينزيج، الذي يدرس سلاسل إمداد التوابل بجامعة فيتن هيردكه في ألمانيا، “لأن قيمة سلاسل إمداد التوابل تبدأ عادة من الدول النامية، فإن هذه الدول معرضة بشكل خاص لانتهاكات شروط الحفاظ على البيئة”.
ويضيف أن “التوابل مثلها في ذلك مثل الكاكاو، تعد من المواد الخام المهمة، ويجب فحصها ومتابعتها بدقة”، سواء من حيث مراعاتها لحقوق الإنسان بالنسبة إلى العاملين في المجال، أو فيما يتعلق بحماية البيئة.
ويواجه المتسوقون الذين يعيشون في دول بعيدة عن أماكن زراعة التوابل، مصاعب أحيانا لمعرفة مدى مراعاة المنتجات للشروط البيئية.
ولكن الأختام التي تضعها جمعيات، مثل فيرتريد الألمانية التي تعنى بالتجارة النزيهة وكذلك العلامات التجارية الخاصة بالمنتجات العضوية، يمكن أن تساعد المستهلكين باعتبارها دليلا إرشاديا تقريبيا.
ويقول فينزيج إن الدراسات الميدانية أشارت إلى أن المنتجات التي تحمل هذين الخاتمين بشكل خاص، يتم إنتاجها بطريقة تراعي الاشتراطات البيئية. ويضيف أنه “مع ذلك تراجع الطلب على مثل هذه التوابل مؤخرا، مثلما حدث مع المنتجات العضوية”.
ويشير كذلك إلى أن التأثير غير المباشر للأزمة يتمثل أيضا في تراجع حافز المنتجين على زراعة التوابل بطريقة صديقة للبيئة.
ويعلق فليكس جيز، من جمعية أل بونتي للتجارة النزيهة، على هذه التطورات بقوله إن “أصحاب الحيازات الصغيرة من المرجح أن ينتهي بهم الحال إلى دفع ثمن متاعب صناعة التوابل”.
ورجح أن يتم في النهاية تمرير التكاليف المرتفعة إلى الحلقة الأضعف في سلسلة التجارة، ويعني ذلك في المقام الأول صغار المزارعين، الذين لم ينظموا أنفسهم في جمعيات تعاونية ضخمة.
وبحسب جيز فإنه من المهم للغاية بالنسبة إلى التجار والمنتجين إقامة شراكات عادلة بعيدة المدى لضمان قدرة الجميع على مواجهة الأزمات بشكل كفؤ قدر الإمكان.