في بلدٍ كلبنان، حيث تتقاطع المصالح المحلية مع الحسابات الإقليمية والدولية، تبدو السياسة الاقتصادية كأنها عملية جراحية دقيقة تُجرى تحت الأضواء وفي غرفة مليئة بالمراقبين.
فالاقتصاد ليس مجرد أرقام وموازنات، بل هو ساحة صراع هادئ أحياناً، وصاخب في كثير من الأحيان، بين قوى الداخل وطموحات الخارج. ومع كل تشكيل حكومي أو استحقاق وطني، يُطرح السؤال نفسه: كيف يمكن لأي مسؤول، وخصوصاً صانع سياسة اقتصادية، أن يصنع سياسة اقتصادية تُرضي الداخل المأزوم من دون أن تثير حفيظة الخارج المراقب والمموّل والمشترط؟
الداخل اللبناني منقسم ومثقل بالأزمات. فئات واسعة من الشعب تُعاني من غلاء المعيشة وإنهيار الخدمات وتراجع القدرة الشرائية. مناطق بكاملها، خصوصاً في الجنوب والبقاع والشمال، تُطالب بإنصاف اقتصادي، لا على أساس طائفي أو سياسي، بل على أساس معاناة حقيقية وانهيار اقتصادي يطال الجميع.
إلى جانب ذلك، تفرض القوى السياسية المحلية رؤيتها أو مطالبها غير المباشرة في ما يخصّ الإنفاق العام وتمويل بعض القطاعات وتوفير بدائل اقتصادية تعوّض عن غياب الدولة أو الضغط الخارجي. هنا، يجد صانع السياسة الاقتصادية نفسه أمام مأزق مركّب: كيف يُعيد تشغيل الاقتصاد من دون استبعاد أي منطقة أو مكوّن، وفي الوقت نفسه من دون فتح أبواب اتهامات بتمويل جهات «غير مرغوب فيها» من دول عدّة مؤثّرة؟
الخارج – من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والبلدان العربية إلى صندوق النقد الدولي والبنك الدولي – لا يُموّل من دون شروط. وهو يراقب من كثب أي قرارات تُتخذ داخل الحكومة، خصوصاً في ما يتعلق بتوزيع المساعدات، والتعيينات في مواقع حساسة، أو أوجه صرف الأموال المُقدَمّة منه.
هذا الخارج يريد «إصلاحات»، ولكنه لا يقدّم دائماً خريطة طريق واضحة لكيفية التوفيق بين هذه الإصلاحات وبين الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي.
بل إن بعض الشروط المفروضة قد تُعمّق الفجوة الاجتماعية، إذا طُبّقت من دون تخفيف آثارها على الفئات الأكثر ضعفاً.
صانع السياسة الاقتصادية في لبنان الحالي هو أمام اختبار مزدوج: الحفاظ على علاقات دولية رصينة ومتينة، ومواجهة واقع محلّي لا تحكمه النصوص بل الوقائع على الأرض.
في إمكانه أن يقترح نموذجاً اقتصادياً قائماً على (1) الشفافية في إدارة المساعدات الدولية بما يقطع الطريق على شبهات «التمويل الموجَّه»، (2) توزيع عادل للإنفاق التنموي يراعي الحاجات الحقيقية للمناطق من دون تحيّزات سياسية، (3) خطّة نهوض وطني ذات طابع اجتماعي تعطي الأولوية للصحة والتعليم والكهرباء والبنى التحتية، و(4) تفاوض أذكى مع الخارج لإقناع الشركاء الدوليين أن دعم الفئات الشعبية في الجنوب والبقاع والشمال لا يعني دعم جهة سياسية معينة بل يعني تثبيت الاستقرار.
من المهم الاعتماد على الواقعية بدلاً من المواجهة. ليس المطلوب من صانع السياسة الاقتصادية في لبنان أن يكون في موقع المواجهة مع الخارج، بل أن يكون في موقع المدافع عن حقوق اللبنانيين جميعاً. هؤلاء المواطنون لا يطلبون امتيازات، بل الحدّ الأدنى من الإنصاف.
وإذا استطاع صانع السياسة الاقتصادية في لبنان أن يقنع الخارج بضرورة فصل المسار الإنساني عن النزاعات السياسية، فقد يفتح باباً لتمويل مشاريع بنية تحتية وإغاثة، حتى في المناطق الحدودية جنوباً وشرقاً وشمالاً ، من دون أن يُغضب أحداً.
من الجدير تقديم مقاربة تنموية منصفة من دون الدخول في لعبة «مَن يستحق أكثر». في الإمكان تبنّي خطة وطنية واضحة لإعادة نهوض الاقتصاد ، تُبنى على أسس عادلة وتُنفَّذ عبر مؤسسات الدولة لا الجمعيات السياسية، ما يتيح استفادة كل مواطن بطريقة تحفظ كرامته وتخفف من اعتماده على المبادرات الفئوية فقط.
لذا، من المفيد العمل على «تحييد» الملف الاقتصادي عن الصراعات السياسية والأمنية. بمعنى آخر، من المفيد تبنّي مقاربة تُركّز على الملفات الاجتماعية والمعيشية، وتُبرز الضرورات الاقتصادية على حساب التجاذبات الإقليمية، ما يسمح بالتعامل مع مطالب الجهات السياسية المحلية (كزيادة الإنفاق الاجتماعي، دعم القطاعات الإنتاجية، أو إعادة تفعيل مؤسسات الدولة في المناطق المهمشة) من دون ربطها مباشرة بخيارات جيوسياسية.
أيضاً، قد ينفع اللجوء إلى مقاربة براغماتية عبر دعم مشاريع تنموية في مناطق محرومة، ليس فقط عبر تمويل مباشر من الدولة اللبنانية، بل عبر شراكات مع منظمات دولية أو عبر مساعدات من الأمم المتحدة، حيث يمتلك صناع السياسة الاقتصادية الحاليين خبرة وعلاقات واسعة. في وسع ذلك إرضاء الداخل من دون إزعاج الخارج.
من المهم أيضاً عرض حزمة إصلاحات ذات طابع وطني ضمن برنامج إصلاحي شامل يهدف إلى إعادة هيكلة الاقتصاد اللبناني، مع ضمان شمول جميع المناطق اللبنانية في الخطة. في هذه الحال، تُقدّم المنفعة لكل الجهات بالداخل على أنها جزء من مشروع وطني متكامل، لا محاباة سياسية.
هذا قد يُقلل جزئياً من الانتقادات الخارجية، ما دام البرنامج يتماشى مع متطلبات صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية الدولية.
في لبنان، لا يمكن لأي سياسة اقتصادية أن تنجح إذا أُنجزت بمعزل عن التوازنات الكبرى. المطلوب اليوم ليس شعارات إيديولوجية ولا انصياعاً أعمى لشروط بعض الدول، بل هندسة اقتصادية دقيقة تراعي الداخل بكل تناقضاته، وتُخاطب الخارج بلغة المصالح لا التحدّي.
يستطيع صانع السياسة الاقتصادية اعتماد سياسة النفس الطويل ويُراهن على التدرّج: لا صدمات مباشرة للداخل أو للخارج، بل خطوات محسوبة تُراكم الثقة من الطرفين.
فهو لا يملك ترف المجابهة، ولكنه قادر على بناء مساحة مشتركة عبر خطاب إصلاحي غير استفزازي، يفتح الباب تدريجياً أمام دعم خارجي، وهو ما سيُخفف تلقائياً من اعتماد الكثير من اللبنانيين على اقتصاد موازٍ.
توجد حاجة اليوم إلى خطاب سياسة اقتصادية جامع لا يُقصي أحداً. اقتصاد لبنان اليوم ولبنان الغد، لا يحتاج إلى شعارات صدامية، بل إلى صانع سياسة اقتصادية يملك جرأة الحديث مع الجميع، من دون التخلي عن أحد.
إذا اختار خطاباً صادقاً في وصف معاناة أهل الجنوب والبقاع والشمال، وأصرّ على أن هذه المناطق ليست عبئاً، بل عمق وطني، فقد يكسب ثقة هؤلاء المواطنين، لا من باب المسايرة بل من باب الموقف الأخلاقي والإنساني والوطني.
إعادة الثقة بالدولة لا تعني نكران التضحيات. إذا أراد صانع السياسة الاقتصادية أن ينجح، فعليه إدراك أن المواطن الجنوبي والبقاعي والشمالي ليس زبوناً سياسياً بل إنسان مجروح، واليوم أكثر مما مضى، مهمّش اقتصادياً. إن إعطاء هذا المواطن حقّه في الكهرباء والصحّة والبنية التحتية وفرص العمل ليس منّة، بل واجب.
ويمكن لصناع السياسة الاقتصادية أن يثبتوا أن الدولة لم تمت. لا أحد يطلب من صانع السياسة الاقتصادية أن يكون محسوباً على «محور» أو طرف.
لكن المطلوب منه، في هذه اللحظة الدقيقة، أن يكون متوازناً ذكياً: لا يستفزّ الخارج، ولا يتجاهل الداخل. إذا استطاع أن يفعل ذلك، فقد يفتح باباً لحكومة تُعيد شيئاً من الأمل، حتى لأكثر الناس تعباً وصبراً في هذا البلد.
في نهاية المطاف، المطلوب من صانع السياسة الاقتصادية في لبنان أن يكون أشبه بربّان سفينة وسط العاصفة: يعرف متى يواجه الريح، ومتى يستغلّها للوصول إلى برّ الأمان.
إذا أراد النجاح في مهمته المعقّدة، لا بد أن يُمارس نوعاً من «المشي السياسي على الحبل المشدود»: إرضاء الداخل عبر سياسات اقتصادية شاملة لا تستفز الخارج، والالتزام بتنفيذ خطاب إصلاحي يُقنع المجتمع الداخلي قبل المجتمع الخارجي بأنه لا يخدم أجندة فئة داخلية معينة، بل يسعى إلى إنقاذ الدولة. في الإمكان النجاح في هذه المهمة.