بين حيّ التربيعة ومنطقة الزاهرية في طرابلس، يتركّز أهمّ تجّار الموبيليا وصنّاع المفروشات، لِحرفة كانت تعتاش منها مئات العائلات، وتُشكّل أحد أهمّ الأعمدة لاقتصاد المدينة وحركة أسواقها.
في سوق المفروشات أو حتّى سوق النحّاسين الذي دخل إليه عدد من تجّار الموبيليا وصنّاع المفروشات، كانت أصوات قرقعة المطارق ودوران الماكينات تملأ الشوارع. ويقصد الناس تلك المنطقة، من طرابلس ومن خارجها، لا سيّما من عكّار والمنية والضنية والكورة وزغرتا، وحتّى من مناطق بيروت وجبل لبنان، لأنّ صناعة المفروشات الطرابلسية عريقة في تاريخها، ومعروفة لدى الجميع بنظافتها ونوعيتها وجودتها.
ومن هذه الحِرفة أو الصنعة، تتفرّع حِرف أخرى. فهناك دهان الموبيليا، النجارة، النجارة العربيّة، التنجيد، حفر الخشب، الرسم على الخشب، التقشيش، تجارة الخشب.. الخ. ولهذا كلّه، كانت تدبّ الحركة في تلك المنطقة وأسواقها، وتدبّ معها البركة. ولأنّ صناعة المفروشات والموبيليا الطرابلسية معروفة بجودتها، ولأنّها واكبت الصناعة الحديثة كما واكبت الشرقي القديم، فإنّها لم تتأثّر بفورة استيراد المفروشات التركية بقدر ما تأثّرت بالأوضاع السياسية والأمنية على الأرض، وبسعر الدولار الأميركي الذي ارتفع بشكل جنوني فأطاح بالليرة اللبنانية وبكل ّشيء. اذ يعاني اليوم قطاع المفروشات في طرابلس ويكابد لكي يبقى على قيد الحياة. إنتهى عصره الذهبي مع انطلاق جولات القتال في طرابلس فتراجع وتقهقر. محلّات عدّة أُقفلت وراح أصحابها يبحثون عن مصدر دخل آخر، إن وجدوا. ثم جاءت الأحداث الأخيرة مروراً بأزمات ارتفاع سعر صرف الدولار و”كورونا” والإقفال تلو الإقفال، فوصلت أوضاع هذه الصناعة ومن يشتغل فيها إلى الحضيض.
انتهاء العصر الذهبي لقطاع المفروشات
محمود شرف الدين، أحد تجّار الموبيليا في طرابلس، يشرح لـ”نداء الوطن” الأوضاع الحالية فيقول: “أنا هنا في السوق منذ 40 سنة، لم أشهد مثل هذه الأحوال قبل ذلك على الإطلاق. صحيح كانت هناك أزمات، ولكن كنّا نستطيع تمرير الأمور إلى حدّ الممكن، الى أن حلّت الكارثة الكبرى مع غلاء الدولار”.
ويتابع: “ارتفاع سعر صرف الدولار بهدلنا، أسعار الخشب نار كاوية، ليس الخشب فحسب بل كلّ ما يدخل في هذه الصناعة من أقمشة وأدوات أخرى. فبأيّ سعر سنشتري وبأيّ سعر سنبيع؟ تخيّل أنّ زراً صغيراً يوضع في جسم كنبة صار سعره نحو 3 دولارات، يعني 29 ألف ليرة، هو نفسه كان في السابق بألفي ليرة. لم يعد هناك لا تصنيع ولا شغل ولا مبيع. هنا محلات أقفلت عمرها عشرات السنوات، ويظهر ان كلنا على هذا الطريق. نحن نكابر على الوضع ولكن إلى متى؟”.
وبحسب ما يؤكّد أصحاب المحلات فإن “عدداً من التجّار أقفلوا وسرّحوا عمّالهم في السنوات الماضية، لكن أزمة الدولار ستكون القاضية، فارتفاع سعر صرفه المستمرّ سيؤدّي إلى توقّف الجميع عن أعمالهم وإقفال محلّاتهم التي ما عادوا قادرين على دفع إيجاراتها”.
من جهته، أشار محمد جاجاتية، وهو صاحب محلّ تصنيع موبيليا في منطقة الزاهرية، الى أنّ معاملة الزبائن “صارت صعبة جداً، وفي حال دفعوا ثمن البضاعة على سعر الدولار الجديد، فلا يدفعون أجرة العمّال إلا كما كان الدولار في السابق”. كذلك يشير تجّار الموبيليا في الزاهرية إلى أنّ “الأعمال حالياً تقتصر بأغلبها على تصليحات صغيرة من هنا وهناك، بانتظار الفرج”.