تلقّى المجلس النيابي مؤخّرًا مشروع قانون يرمي إلى تخصيص بعض الإيرادات الضريبيّة، لتمويل صندوق استرجاع الودائع، “المنوي إنشائه من قبل السلطة التنفيذيّة” في سياق اقتراح قانون يعيد “التوازن للإنتظام المالي في لبنان”. الإيرادات التي يطالها القانون، والتي ستُفرض عليها الضريبة، هي تلك التي حققها البعض من إعادة تسديد قروضهم المصرفيّة بسعر الصرف الرسمي، خلال سنوات الأزمة، أي بما يقل عن سعر الصرف الفعلي في السوق، وهو ما أنتج أرباحًا لم يسقط استدراكها ضريبيًا بمرور الزمن. وبطبيعة الحال، لحظ مشروع القانون استثناء القروض السكنيّة والاستهلاكيّة الفرديّة وقروض التجزئة، والتي لا تزيد قيمتها عن مئة ألف دولار أميركي.
لا يحتاج المرء إلى كثير من الجدال ليثبت أهميّة تغريم شريحة كبار المقترضين، الذين سددوا قروضهم بالليرة وبسعر صرف منخفض، بعد أن سحبوها بالدولار النقدي قبل الأزمة. وهذا النوع من العمليّات، كان سببًا أساسيًا من أسباب تنامي كتلة الخسائر بعد الانهيار، والتي حرمت المودعين من حقوقهم في النظام المصرفي. وفكرة التمييز بين كبار المقترضين، من ناحية إعطاء بعضهم خيار السداد بالليرة، كانت بحد ذاتها عملًا احتياليًا يجب التعامل معه اليوم.المشكلة في مشروع القانون الجديد ليست هنا إذًا. بل تكمن مشكلته في دسّ السم في العسل، من خلال ربط الإجراء بصندوق استرجاع الودائع. الصندوق الذي لم يتأسّس بعد.
الضريبة محقّة من حيث المبدأ
طرح مشروع القانون، أثار زوبعة من النقاش حول فكرة فرض إجراء ضريبي بمفعول رجعي. بمعنى آخر، رأى البعض أنّ أي قرار حكومي، أو تشريع برلماني، لا يمكن أن يعود بالزمان إلى الوراء، ليخلق التزامات على عمليّات قام بها المكلفون في الماضي. هذه الحجّة، التي يسوّقها المتضرّرون من مشروع القانون، تنطلق من فرضيّة مفادها أنّ المكلّف ضريبيًا كان يمكن أن يتغاضى عن القيام بعمليّات معيّنة، لو أنّه علم بوجود تكليف ضريبي إضافي -من هذا النوع- سيُقر في المستقبل.
هذه الحجّة سقطت عمليًا عندما رفض المجلس الدستوري أحد الطعون في موازنة العام 2024، وتحديدًا الطعن الذي استهدف إسقاط الضريبة على الأرباح المحققة من أرباح منصّة صيرفة. أي بصورة أوضح، لم يجد المجلس الدستوري أنّ هذه الضريبة تمثّل خرقًا لمبدأ عدم جواز التشريع بمفعول رجعي، بل وثبّت هذه الضريبة ولم يُسقطها. الفكرة الأساسيّة هنا، هي أن المكلّف ضريبيًا كان يجد أن يسدد ضريبة الدخل على هذه الأرباح، بمعزل عن التشريع الجديد. وما يجري الآن، ليس سوى تثبيت لضريبة كانت مستحقة، لمصلحة الدولة اللبنانيّة.
من الناحية العمليّة، يمكن القول أن الضريبة محقّة من حيث المبدأ. بل كان المطلوب فعليًا ما هو أكثر، من ناحية ملاحقة الذين استفادوا –بشكل استنسابي- من القدرة على سداد الديون بسعر الصرف الرسمي، وهو ما حصل على حساب المودعين، وسائر المقترضين الذي سددوا ديونهم بالعملة الصعبة. التعويض على هذه العمليّات غير المشروع، كان يجب أن يتخطّى حدود تسديد ضريبة الدخل فقط.
ومن المهم هنا الإشارة إلى أنّ حديثنا عن هذه الفئة المحظيّة من كبار المقترضين، لا يشمل طبعًا أصحاب قروض التجزئة والقروض السكنيّة، الذين سددوا الدفعات المستحقة على ديونهم بالليرة بموجب تعاميم المصرف المركزي. في هذه الحالة، لم يكن هناك أي استنسابيّة تُذكر، بل جرت هذه العمليّات لتفادي أزمة ديون –مع أزمة نقديّة- كان يمكن أن تنتج عن مطالبة صغار المقترضين بتأمين دولارات من السوق الموازية لتسديد ديونهم. وهذا ما يختلف عن حال التجّار وأصحاب التسهيلات الكبيرة، الذين امتلكوا القدرة على تأمين الدولارات المحليّة للسداد من أعمالهم اليوميّة.
إشكاليّة ربط الإجراء بصندوق استرجاع الودائع
الإشكاليّة الأهم في الإجراء، هي ربطه بصندوق استرجاع الودائع. بهذه الصورة، تصيغ الحكومة إجراءًا مربوطًا بصندوق لم يتأسّس بعد، وبخطّة لم تبصر النور، وبمسودّة مشروع قانون لم تُنجز بعد لإعادة هيكلة المصارف. الحكومة ستطرح على النوّاب خطوة غير واضحة الأفق، ماليًا ومصرفيًا.
ومن المعلوم أنّ الخطوة مثيرة أصلًا للجدل، لكونها ستخصّص إيرادات ضريبيّة معيّنة لغاية محددة، وهو ما يخالف مبادئ شيوع وشمول الموازنة. والمطروح هنا ليس تخصيص رسم معيّن لغاية معيّنة، بل تخصيص جزء من ضريبة الدخل للصندوق، وهو ما يختلف عن حالة “رسم التعمير” الذي فرضته الحكومة بعد زلزال 1956.
هذا الجانب الإشكالي، سيتعمّق طبعًا مع تخصيص الضريبة لصندوق غير موجود بعد، ولو على الورق. وقد يكون مفيدًا التذكير هنا بأن الخطّة الحكوميّة الجديدة، التي يعمل عليها فريق استشاري خاص محيط برئيس الحكومة، لم تُطرح بعد على طاولة مجلس الوزراء، وهو ما يفرض السؤال عن فكرة ذِكر الصندوق قبل الاتفاق على دوره.
الصندوق، الذي تتخايله الحكومة هنا، يقوم على تحمّله نحو 11.9 مليار دولار من الودائع، بالنيابة عن المصارف. وسيعد الصندوق المودعين بتسديد أموالهم من استثمار الأصول العامّة، على مدى فترة تصل إلى نحو 20 سنة. الفكرة غير الواقعيّة ستريح المصارف طبعًا من جزء من خسائرها، وستشطب نسبة من الودائع من ميزانيّتها، لكنّها تفتقر إلى الواقعيّة من ناحية إمكانيّة تسديد أموال المودعين. ومشكلة الصندوق الأهم، هي أنّه سيحمّل الدولة كتلة من الديون التي لن تتمكّن من سدادها يومًا، خصوصًا أنها غارقة أصلًا بديون لم تتم إعادة هيكلتها بعد.
بهذا الشكل، تدس الحكومة سمّ صندوق استرجاع الودائع، في عسل الضريبة على كبار المقترضين. وتحاول من خلال هذه الخطوة تبرير تأسيس الصندوق لاحقًا، من زاوية كونه ضرورة لاستيعاب الأموال التي سيفرضها الإجراء الضريبي الجديد. وعند طرح فكرة الصندوق لاحقًا، ستكون الحكومة قد عرضت أساسًا “خطوة إيجابيّة” مربوطة بالصندوق، وهو ما سيسهّل تمرير المشروع أمام المودعين. مع الإشارة إلى أنّ قيمة الأموال التي سيحصّلها الإجراء الضريبي الجديد، ستكون محدودة جدًا، قياسًا بحجم الودائع التي يعد الصندوق بسدادها في المستقبل.