ماذا يعني قيام صندوق النقد الدولي بوضع ملاحظات جوهرية على تعديل قانون السرية المصرفية؟ تشريع لم يكن جف حبر طباعته بعد، فاذا بأعلى سلطة نقدية عالمية تنتقده وبتفاصيل مريرة عرّته، إن لن نقل أنها عرّت من عمل على ذلك القانون القاصر وبالطريقة المفخخة والملتبسة التي صدر بها عن سابق اصرار وتصميم.
إجهاض باكورة الإصلاحات مع نزيف حاد
ذلك القانون هو باكورة الاصلاحات الواردة ضمن الشروط المسبقة التي وضعها الصندوق أمام لبنان لينفذها، قبل أن يحصل على الموافقة النهائية الخاصة بقرض 3 مليارات دولار. قرض يفتح الباب أمام مساعدات وقروض من دول، ومؤسسات تمويل، وصناديق عربية وعالمية. ويسمح للبنان أيضاً بإعادة هيكلة ديونه والعودة إلى اسواق المال الدولية، إذا أراد الاقتراض مجدداً. أما اجهاض الباكورة الاصلاحية فيتحمل مسؤوليته المجلس النيابي المنتخب حديثاً والبادئ سريعاً بنزف مصداقيته منذ الاختبار الأول للتشريع الاصلاحي المزمع.
مطبخ تشريعي فسدت صلصاته ونكهاته وبهاراته
لم ينجح رئيس مجلس النواب نبيه ونائبه الياس بو صعب ورئيس لجنة المال والموازنة ابراهيم كنعان وبقية من عمل معهم في المطبخ التشريعي، لا سيما اللجان المشتركة الضامة كل الأحزاب والتيارات السياسية والطائفية و»المصلحية»، في جعل القانون مقبولاً من صندوق النقد. فهل يمكن اعتبار هذا الإنذار «الأممي» بمثابة اعلان وفاة للطريقة التي لطالما طبخت بها التشريعات اللبنانية منذ 30 سنة؟ المعلومات تشير إلى ما يشبه ذلك إلى حد ما. فلدى الصندوق «كتاب» يطبقه» بوصفات تنسف كل كتب الطبخ التشريعي اللبناني بنكهات التسويات وبهارات التمريرات وصلصات التظبيطات، ورشة ملح المصالح. وليس أدل على مسؤولية البرلمان السابقة إلا انفجار الأزمة التي بين أبرز اسبابها موازنات أقرت في المجلس النيابي بعجوزات هائلة فرضت اقتراضاً مفرطا أدى الى التعثر عن السداد والدخول في متاهات الافلاس، فضلاً عن عدم محاسبة البرلمان أي حكومة ساهمت تاريخياً في تجذير أسباب الأزمة.
في جانب عون سياسات من “كل وادٍ عصا”
أما في جانب الرئيس وتردده في توقيع تعديل قانون السرية المصرفية، فالمسألة أقل وضوحاً، إذ بين العونيين من نصح الرئيس بالتوقيع مرضاة لبري، مقابل عونيين آخرين نصحوه بعدم التوقيع. وفي الحالتين، سياسة حتماً من ذات اليمين أو اليسار في تيار غير متجانس فيه من «كل وادٍ عصا».
وتشير المعلومات إلى أن عون كان أقرب الى التوقيع بانتظار ملاحظات الصندوق التي أتت «شحمة على فطيرة» من أراد عدم التوقيع لأسباب سياسية وتحديداً على جبهة الحرب «البسوسية» المستعرة مع نبيه بري. مع عدم انكار وجود من نصح الرئيس بعدم التوقيع صادقاً لعلمه بمتطلبات الاصلاح الحقيقي.
الشيء بالشيء يذكر منذ محاولة ماري كلود نجم
ما سبق هو في الشكل، أما في المضمون فيجدر السؤال عن نوايا من أراد ونفذ التعديل بالصيغة التي أقرت. وهنا نعود بالذاكرة الى مشروع قانون قدمته وزيرة العدل السابقة ماري كلود نجم (في حكومة حسان دياب) من صفحة واحدة وافية وكافية نسبياً، تدعو إلى الاستنتاج الحاسم بأن السرية يجب أن تلغى بوضوح تام في سياق الاصلاحات الجذرية اذا أردنا انقاذاً مما نحن فيه. من أهمل ذلك المشروع ووضعه في الأدراج آنذاك، هو نفسه الذي عاد بعد سنتين لإجراء تعديلات كما يشتهي. وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فان لجنة المال والموازنة في تلك المرحلة، والتي كانت تضم كل الأطياف السياسية والطائفية و»المصلحية»، تصدت لمقاربة حكومة دياب وأسقطت أرقامها عن الخسائر التي تبين في ما بعد أنها كانت أكثر من صحيحة. رغم ذلك، لم يعترف أحد بخطأه، أو خطيئته، وعاد ليكرر السيناريو مع تمرير قانون مفخخ ملتبس رفضه صندوق النقد سريعاً كما لو كان الرفض صفعة على خد المجلس النيابي ليفيق من غيه ومقولة «سيد نفسه».
ليسوا على استعداد لإعطاء سكين لذابحهم
أما لماذا أقر التعديل على النحو الذي رفضه الصندوق، فهناك عدة تفسيرات ابرزها أن أي آلية واضحة وسهلة التطبيق لكشف السرية هي عبارة عن سيف مصلت على رقاب من أثرى وأفسد على حساب المال العام والمجتمع طيلة 30 سنة ماضية، وبين هؤلاء من هو في السلطة اليوم كما أكد التقرير الأخير للبنك الدولي تحت عنوان «المخطط الاحتيالي». لذا «خاطوا» القانون بطريقة يستطيعون معها الحؤول دون فتح صندوق «باندورا» الفضائحي يوماً. الى ذلك، هناك في البرلمان من ليس ضليعاً في شؤون المال والاقتصاد والمصارف، الى جانب من لم يع بعد أهمية (أو خطورة) توقيع اتفاق مشروط مع الصندوق، معتقداً أن الأمر سهل أو قابل «للتظبيط» كما حصل بعد مؤتمرات باريس 1 و2 و3 … بالتزامات نتقيد بها شكلاً أو لا نتقيد بها مطلقاً و»تمشي الأمور».
عدنا الى المربع الأول… صفر وما تحته
أما وقد ردّ الرئيس عون القانون، فان الاصلاحات المنجزة منذ توقيع الاتفاق لم تبتعد عن الصفر لا بل غرزت تحته، إذ لكل تأخير أو فشل كلفة اضافية تعمق الخسائر وتعقد الحلول. فلا قانون «كابيتال كونترول» أقر، ولا موازنة مقرة بعد، ولم يبصر مشروع قانون اعادة هيكلة المصارف النور… إضافة الى عدم انجاز التدقيق في ما تبقى من احتياطيات عملة صعبة في مصرف لبنان، ولم يُوقع اتفاق مع شركة تدقيق دولية لفحص جودة أصول المصارف… وغيرها من الشروط المسبقة التي يتأخر تنفيذها بما يؤكد، بلا شك، أن الإصلاح متعثر جداً، وربما ممنوع من الولادة من منظومة تناور مع الصندوق لتكسب وقتاً، وترتب صفوف «مقاومتها وممانعتها» أي اصلاح يقوض سلطتها ويفكك مصالحها ويهدد هيمنتها في المال والسلاح والطائفية.
وعود بري تذهب أدراج الرياح
وبذلك يذهب ادراج الرياح تدريجياً وعد الرئيس بري بانجاز التشريعات اللازمة قبل الدخول في جلسات الاستحقاق الرئاسي. وعد اطلقه في 31 تموز يوليو الماضي، عندما قال أنه لن يدعو الى «عقد جلسة لانتخاب رئيس جديد للبلاد حتى يقر المجلس اصلاحات تمثل شروطا مسبقة لبرنامج انقاذ من صندوق النقد».. وكان منتظراً منه في خطابه الاسبوع الماضي الحديث عن هذا الاستحقاق الأهم وماذا حقق منه، فاذا به يتجاهله لينكأ نكايات الكهرباء (وما خلونا) ويتحدث عن هوكشتاين (إجا ما إجا) ومواصفاته للرئيس المقبل (على قياس محدد لديه)، اضافة الى موضوعات أخرى لا علاقة لها بصندوق النقد الدولي لا سيما تكرار مقولة لا يعرف أحد (وهو ضمناً) كيف يصرفها وهي أن «الودائع المقدسة».
إذاً، يدخل لبنان مرحلة الاستحقاق الرئاسي، فيتأجل كل اصلاح جذري مطلوب، على ان يستمر المراهنون على مناخ دولي ما يسمح لهم بالتملص من الاصلاحات، والحصول على قروض ومساعدات الا أن احتمالية ذلك ضئيلة نسبياً، إن لم تكن معدومة وفقاً للمعطيات القائمة اليوم.
في الموازنة معضلة لاإصلاحية أيضاً
واذا كان لا بد من دليل اضافي على استعصاء الاصلاح، فهناك موازانة 2022 التي لم تقر بعد. واذا اقرت فلن تأتي على قدر توقعات صندوق النقد، لا سيما مع دولار جمركي أقل من سعر المنصة لا يرفع الإيرادات كما يجب. فيزيد العجز في الموازنة، وبالتالي يتخلف لبنان عن تلبية شرط ضبط ذلك العجز، ويدخل في متاهة جديدة قد تؤدي لاحقاً الى تغيير جوهري في الاتفاق المبدئي مع الصندوق، اذا بقي شيء من ذلك الاتفاق العتيد، أصلاً، على قيد الحياة.
سقوط محاولة بوصعب الإلتفاف
أما «الكابيتال كونترول» الذي اجتهد الياس بوصعب لتمريره، فسقط مرة أخرى معه كما سقط مع سلفه إيلي الفرزلي، وسقطت معه رهانات حماية المصارف من دعاوى المودعين، ورهانات فصل الدولارات القديمة (ودائع ما قبل الأزمة) عن الدولارات الجديدة (الفريش). وكان المحك الأبرز أمام الياس بوصعب، لتأكيد جديته وعدم تواطئه المصرفي والسياسي، السعي لوضع بند في ذلك المشروع يجبر من حوًل أموالاً بعد 17 تشرين 2019 على اعادتها الى النظام المصرفي. وبما انه لم يفعل، ولم يسع أصلاً الى ذلك، فان نيته الاصلاحية لم تظهر جلية، بل هو يعمل بشكل تقليدي ضمن سياق عقلية المنظومة التي ينتمي اليها (سواء من صوب بري أو من صوب عون).
لم يبقَ في الميدان إلا حديدان… سعادة الشامي
على ما يبدو لم يبق في الميدان الا حديدان، نائب رئيس مجلس الوزراء سعادة الشامي، المدافع عن الاتفاق مع الصندوق، والدافع لاقرار تشريعات واصلاحات تتوافق مع الشروط المسبقة وتلبيتها. فإلى متى سيبقى الشامي يغني وحيداً تحت «الدوش» معتقدأ أن صوته جميل. لن يطول الوقت حتى نعرف حقيقة موقفه بالاستمرار إلى جانب رئيس الحكومة نجيب ميقاتي من عدمه. علماً بأن تجربة 2020 لا تشجع مطلقاً، عندما كان ميقاتي أو من يمثله آنذاك (نقولا نحاس) رأس حربة ضد الاصلاحات التي طرحت، وكان ما كان من استقالات احتجاجاً على ممارسات ما سمي بـ «حزب المصرف» الذي اتهم نحاس بالإنتما إليه. ففي لبنان طريقان، أمام الشامي ومن يشبهه، في هذه الحالة: إما أن يبقى التكنوقراط يحاول جاهداً واضعاً مصلحة البلد نصب عينيه مهما كلف الثمن، وإما ينفض يده. وما النفض، في حالة لبنان المستعصية، الا طريقة للتعبير عن أن التكنوقراط ليس مطية للكليبتوقراط! فماذا هو فاعل الشامي؟
عبثاً نحاول من دون استقلال ناجز للقضاء
تبقى الإشارة أخيراً إلى أن الوضع في لبنان حالياً لا يشبه أي حقبة أو أزمة سابقة من أزماته. فبرأي صندوق النقد والاصلاحيين في لبنان، البلاد أمام مفصل تاريخي لا يمكن النجاح في عبوره الى بر الإصلاح إلا بالمزيد من الشفافية والمحاسبة. وما التعديل المطلوب من صندوق النقد للسرية المصرفية وغيرها من التشريعات الا في هذين السبيلين. شفافية في آليات كشف السرية بما يوصل إلى المحاسبة الممكنة الكابحة للفساد. بيد أن الهدفين المذكورين لا يمكن تحقيقهما من دون قانون لاستقلالية القضاء، استقلالاً ناجزاً، لا لبس فيه، عن الطبقة السياسية والطائفية. وهذا هو الإصلاح شبه المستحيل وفقا للنظام السياسي الطائفي الذي يتشبث به معظم اللبنانيين لا سيما حكامهم الأشاوس.