كثيرة هي الأسباب والتجارب التي قد تدفع الى التوجس من برنامج مع صندوق النقد الدولي. صندوق النقد الدولي نفسه لا يخفي ان وصفاته وبرامجه ليست نصوصاً مقدسة تؤمن العبور الى النعيم الاقتصادي والمالي. المؤسسة لا تخفي أيضاً نسبة فشل برامجها.
ففي دراسة بحثية منشورة على موقع الصندوق الرسمي في أيار 2019، تشير الدراسة التي اجرت تقييماً لعيّنة من البلدان التي تم التدخل فيها بأشكال مختلفة، وتم استخدام المؤشرين الرئيسيين اللذين يعتمد الصندوق عليهما لقياس نجاح خطته وتدخلاته، وهما استقرار ميزان المدفوعات واستقرار الاقتصاد الكلي، تبين ان 50 في المئة من التدخلات التي قام بها الصندوق فشلت، 45 في المئة نجحت جزئياً و5 في المئة فقط نجحت كلياً.
ولعلّ الواقعة التي كشفها الاقتصادي والاستاذ الجامعي جوزف ستيغليتس، حين سقط سهواً اسم دولة اخرى في برنامج مخصص لدولة مغايرة، مما احدث ارباكاً كبيراً وفضيحة للصندوق، أكبر دليل على حجم الثغرات التي يمكن من خلالها التشكيك بجدية وحتمية نجاح أي برنامج مع صندوق النقد الدولي.
كل الاسباب التي ذكرت، هي ذخيرة غالباً ما تستخدم ممن يعارضون عقد برامج مع الصندوق، لما قد يترتب على ذلك من نتائج كارثية أحياناً على فئات اجتماعية معينة، وهي الاكثر ضعفاً من الفقراء والطبقات الوسطى، دون ان تؤدي الوصفات التقشفية الى نتائج ناجحة ولو حتى دفترياً. وغالباً ما تسارع الحلقات المالية في أي اقتصاد حر الى طلب نجدة الصندوق نظراً للقواسم المشتركة التي تجمع الطرفين، الا في الحالة اللبنانية فهناك استثناء غريب.
المسألة يتردد صداها منذ ايام دياب/لازار
في نيسان 2020 أعلنت حكومة حسان دياب عن خطتها المالية والتي انجزت بإشراف شركة لازارد ونالت ثناء من صندوق النقد الدولي، طلبت آنذاك جمعية المصارف في أول رد على الخطة من «ممثلي الأمة رد الخطة، بل ومحاسبة من تجرأ على صياغتها لتعديه على الأسس القانونية والدستورية التي قامت عليها الدولة اللبنانية». في ردها الثاني قدمت الجمعية مقاربتها الخاصة لخطة بديلة أبرز ما جاء فيها هو صندوق لاطفاء الخسائر أو ما اصطلح على تسميته لاحقاً بالصندوق السيادي، الذي تقوم فلسفته على بيع او استثمار اصول الدولة لإطفاء الخسائر المصرفية او رد الودائع لاصحابها.
ابراهيم كنعان ونقولا نحاس
ورياض سلامة… ما غيرهم !
سرعان ما لبى ممثلو الامة آنذاك نداء الجمعية وأطاحوا بخطة التعافي وفق مقاربات لاحتساب الخسائر ومعادلات لا تستقيم على قوس قزح. يومها وعلى الرغم من نيل رئيس لجنة المال والموازنة ابراهيم كنعان النجومية الكبرى في هندسة الاطاحة بالخطة بالتعاون مع نقولا نحاس (المستشار الحالي لرئيس الحكومة نجيب ميقاتي)، الا ان أحد عرابي الاطاحة بالخطة كان حاكم المصرف المركزي رياض سلامة حين عبر عن ذلك بكل صراحة وقال: «بكرا الناس بتتعود وما حدا بموت من الجوع».
تكذيب نحاس وأقرانه
شاءت الصدف ولسوء حظ النائب السابق نقولا نحاس أن تدور الدنيا دورتها على مدى عامين، لتتبنى حكومة رئيس كتلته النيابية السابق والرئيس الحالي نجيب ميقاتي الذي يشغل نحاس منصب مستشاره الاقتصادي، خطة لا تختلف كثيراً عن خطة سلفه حسان دياب، فجاءت بمثابة تكذيب لكل ادعاءات نحاس واقرانه، الاختلاف الوحيد تمثل فقط بتعمق الانهيار بكافة جوانبه.
جمعية المصارف تعاند… لا تكل ولا تمل
في حين خفت صوت نقولا نحاس وابراهيم كنعان، تأبى جميعة المصارف القبول بالخطة الجديدة – القديمة التي تصر على شطب رؤوس أموال مصارف تعدها مفلسة. وعبرت الجمعية عن رفضها هذه المرة بشكل أكثر تهذيباً في بيان لم تدعُ فيه هذه المرة ممثلي الامة الى محاسبة من تجرأ على صياغتها.
أما الحاكم المركزي فمشغول بالدفاع عن سمعته أمام هول الدعاوى المحلية والدولية أكثر من حرصه على سمعة مصرفه و»افلاسه» بحسب الخطة الاولى والثانية معاً.
ما البدائل؟ أفكار ما انزل الله بها من سلطان!
حسناً، جمعية المصارف والحلقات المالية المرتبطة بها لا تريد برنامجاً مع صندوق النقد الدولي، ومقاربتها لمعالجة الازمة عبر صندوقها السيادي تغير شكله من قبل الجمعية نفسها حينما تقدم أمينها العام فادي خلف باقتراح جديد بناء على فكرة تقدم بها أحد المصرفيين، دون تسميته، تستند على انشاء صندوق جديد يسمى “special purpose vehicle” تتعهد الدولة بتمويله عبر تخصيص 20 في المئة من صافي مداخيل الغاز والنفط لاعادة تكوين الودائع. بانتظار تمكن المصرفي صاحب الفكرة، من استخراج الغاز وبيعه قبل وصول فريق صندوق النقد الدولي الى لبنان آواخر هذا الشهر، لاقناعنا جميعاً بجدوى اقتراحه، الخلاصة الوحيدة التي يمكن الخروج بها هي ان من يرفض برنامج الصندوق لا يمتلك خطة بديلة عنها حتى هذه اللحظة.
المصرفيون يرفضون تحمل مسؤوليتهم عن ضياع الودائع
المدير العام السابق لوزارة المالية آلان بيفاني لا يوافق على أي خطة بديلة من قبل رافضي عقد برنامج مع الصندوق وتحديداً المصارف. ويقول: «من الواضح ان هؤلاء لا يريدون المساهمة بأموالهم الخاصة لاعادة رسملة مصارفهم التي باتت بحكم المشطوبة لو مهما حاولو تجميل الخسائر. وهم لا يريدون أيضاً التخلي عن ملكية مصارفهم، وهم بالتالي يريدون اليوم تخفيض الكلفة بقدر الامكان لحجم الاموال التي عليهم انفاقها لاعادة الرسملة».
لديهم خطة… تلك التي يطبقونها منذ أكثر من سنتين
يوضح بيفاني، المطلع على الحيثيات التي أدت الى نسف الخطة الاولى التي ساهم بصياغتها في حكومة حسان دياب، ان من يصر على مقولة ان ليس هناك خطة مقابلة لصندوق النقد هو مخطئ، يقول بيفاني إن «ما يجري منذ أكثر من عامين الى يومنا هذا هو الخطة بعينها، وهؤلاء مستعدون بمن فيهم حاكم البنك المركزي لاطالة أمد هذه الخطة التي تستند على أن يطفئ المجتمع الخسائر بلحمه الحي لسنوات وسنوات».
صومال ويمن… غياب الدولة وشبح الاقتتال
عن امكانية استدامة «اللاخطة» في ظل الاثمان الباهظة التي يتكبدها المجتمع بأغلب فئاته، وهل من نقطة نهاية يمكن الوصول اليها بحيث لا يعود هناك امكانية للتحمل؟ يتساءل بيفاني حول القعر الذي يتم استحضاره دائماً والتحذير منه وبأننا لم نصل الى القعر بعد «ما هو القعر ومن يحدده؟ هناك دائماً ما هو أسوأ من السيئ الحالي. يجري الحديث دائماً عن قعر او نقطة نهاية وكأن البلاد والمجتمع هما عبارة عن شركة، تصل الى نقطة معينة فيتوجب اعلان افلاسها واغلاقها. البلاد لا تغلق ولا تختفي والمجتمع داخلها يبقى ولو هاجر أو هرب نصفه. والسؤال يصبح: كيف سيكون حال من بقي مع السقوط المستمر. ويضيف: «في مؤتمر استقالتي تحدثت عن نموذجين ولم يكن ذلك عبثاً، تحدثت عن اننا متجهون الى نموذج صومالي أو يمني، الصومال التي تدار بكيانات ذاتية بلا اي بنية لما يسمى مؤسسات دولة، واليمن لما يمثله هذا النموذج من أمكانية ان يؤدي الانهيار المستمر الى اقتتال بين مكونات البلد الاجتماعية».
يحذر بيفاني من استمرارية «اللاخطة» كخطة مستدامة سنصل معها الى حالة من الفروقات الهائلة اجتماعياً واقتصادياً، تخلق الظروف المناسبة لمشروع اقتتال داخلي. «صحيح ان أي حرب اهلية تحتاج الى قرار واستثمار خارجي، وصحيح انه حتى هذه اللحظة لا مصلحة للدول الاقليمية الفاعلة من افتعال اقتتال مسلح، لكن الظروف التي ستنتج عن هذه الفروقات الهائلة، ستخلق حالة مثالية لأي طرف خارجي قد يقرر في لحظة بأن الاستثمار في اشعال البلد قد يعزز فرص استثماره على الساحة الاقليمية».
«بكرا بيصير شي وبتتغير الأحوال لأحسن»
يعلق بيفاني على محاولات الاقتراحات البديلة غير القابلة للتطبيق، من صندوق سيادي وصندوق استثمار الثروة النفطية، بالنسبة له ليست هذه الاقتراحات هي نتيجة قلة ذكاء أو نقص ابداع فقط، بل بكل بساطة يعتبر ان منطق المعالجة قائم دائماً على شراء الوقت «بكرا بس يفل السوري بيمشي الحال، بكرا المحكمة الدولية بتحل المشكل، بكرا بيتقشط سلاح حزب الله بيمشي الحال، بكرا بيطلع الغاز بيمشي الحال»…
وعليه يصبح شراء الوقت توازياً مع تعميق البؤس هو فلسفة اللاخطة بحد ذاته.
خفض قسري خطير للاستيراد والاستهلاك
لا ينفي الوزير السابق لشؤون تكنولوجيا المعلومات عادل افيوني ان البديل المقترح عن برنامج مع الصندوق هو ما نعيشه اليوم من ترسيخ لعدم التوازن الهيكلي. وفي حال الاستمرار بهذا البديل قد نصل في نهاية الامر بالمعنى الاقتصادي الى نقطة توازن. «يمكن ان نصل الى مرحلة ينخفض الطلب على العملة الصعبة نتيجة انخفاض الاستيراد، ويمكن ان يصل ميزان المدفوعات الى مرحلة توازن وكذلك الحساب الجاري عبر تقليص العجز وصولاً الى الغائه. لكن هذا في الارقام وعلى الورق، بالمسار الذي نسلكه هذا يعني ان ذلك يمكن أن يحصل نتيجة عدم قدرة الناس على استهلاك الحد الادنى من الأكل، أو ان تزول القدرة على استهلاك الوقود بعد التقشف، أو دفع فواتير المولدات». نقطة التوازن من هذا المنطلق هي نتيجة كارثية.
التوقف عن أي انفاق… وانهيار خدمات الدولة
يضيف افيوني ان التوازن نفسه يمكن ان يحصل في ميزانية الدولة في حال ألغي العجز من الميزانية دون عقد برنامج مع الصندوق، لكن ذلك يعني انه في حال لم تعد الدولة قادرة على الاستدانة، بعد الاطاحة بصندوق النقد للحصول على التمويل، تتوقف الوزارت عن الدفع والانفاق بكل بساطة، وهذا سيؤدي الى حالة انهيار شامل لكل خدمات الدولة.
يتمسكون بمصالح ضيقة على حساب الاقتصاد
«من يرفض عقد برنامج مع صندوق النقد نظراً لكلفته العالية على اصحاب المصارف، يأخذ القطاع المصرفي رهينة. مصرفيون يملكون مصارف برأسمال لم يعد موجوداً سوى دفترياً، يقومون بضرب القطاع. جمعية المصارف تريد التمسك بدورها على حساب القطاع المصرفي وعلى حساب الاقتصاد. فعصب أي اقتصاد أو نمو هو نظام التمويل، والمتحكم بهذا النظام اليوم هو من أشد المعارضين للصندوق.
«رضينا بالبين والبين لم يرض بنا»
قد تصبح التجربة اللبنانية مرجعاً بحثياً سيثير فضول الباحثين واساتذة الاقتصاد في الجامعات مثلما اثير فضولهم حيال اول عملية «بونزي» وطنية في التاريخ الحديث. ويبدو واضحاً ان من يعارض البرنامج هي الحلقات المالية التي عادة ما تطالب ببرنامج مع الصندوق، في حين رضي به الاكثر عرضة للخطر منه. أي بمعنى آخر «رضينا بالبين والبين لم يرض بنا» (وبالمقولة هذه، صيغة لبنان أكثر وضوحاً وفجاجة).