حذر صندوق النقد الدولي بأن وباء «كورونا» المستجد (كوفيد19) يهدد بتبديد المكاسب التي جنتها اقتصادات الدول الناهضة والنامية على مدار العقدين الماضيين اللذين شهدا تحسناً في مستويات الخلاص من الفقر ورفع متوسط أعمار المواطنين في تلك البلدان، مؤكداً أن الأزمة الصحية الراهنة تضع اقتصادات هذه الدول على المحك وتتسبب في مزيد من الاتساع في الفجوة القائمة بين الأغنياء والفقراء.
وأقر الصندوق بأنه رغم ما تحقق على صعيد مكافحة الفقر وتحسين متوسط أعمار السكان، فإن كثيراً من البلدان الناهضة والنامية كابدت من أجل تقليص تفاوت الدخول، وشهدت كذلك مستويات مرتفعة ومستمرة من الشباب غير الفاعلين (سواء بسبب تعطلهم عن العمل، أو بعدهم من المسار التعليمي، أو الافتقار إلى التدريب)، فضلاً عن التفاوت الحاد في مستويات التعليم، والفجوات الواسعة القائمة في توافر الفرص الاقتصادية بالنسبة للنساء.
وتوقع خبراء صندوق النقد، في أحدث تقرير حول «آفاق الاقتصاد العالمي»، أن يتسبب وباء «كوفيد19» في تفاقم مستويات التفاوت وعدم المساواة مقارنة بالأزمات الأخرى في ضوء الآثار المتباينة التي خلفتها تدابير احتواء الوباء على الطبقات الأكثر هشاشة من العمال والنساء المهمشين.
ويقول الخبراء إنهم أثناء سعيهم لتقدير أثر الوباء على التفاوت وحالة عدم المساواة تمكنوا من تعيين حقيقتين: أولاهما أنه من المتوقع انخفاض قدرة الفرد على العمل من المنزل. والثانية تراجع الناتج المحلي الإجمالي في معظم دول العالم.
وأسهب الخبراء في استعراض هاتين الحقيقتين بكثير من التفصيل، مؤكدين أن مفهوم العمل من المنزل بات جوهرياً أثناء الوباء، وقد كشفت دراسة للصندوق عن أن القدرة على العمل من المنزل كانت أقل بين العاملين الأقل دخلاً مقارنة بأصحاب الدخول المرتفعة، واستناداً إلى بيانات من الولايات المتحدة، فإن القطاعات ذات الأنشطة التي يمكن تأديتها من المنزل عرفت مستويات بطالة أقل. وتتيح لنا هاتان الحقيقتان التأكد من أن العمال أصحاب الدخول المتدنية كانوا أقل قدرة على العمل من المنزل، وأكثر ترجيحاً في فقدانهم لوظائفهم جراء الوباء، وهو أمر بالتبعية سيفاقم من توزيع الدخل.
وأكد صندوق النقد على أن الأثر المتوقع لوباء «كوفيد19» على صعيد توزيع الدخل أكبر بكثير مقارنة بالأوبئة السابقة، كما «تقدم لنا الأزمة برهاناً بأن المكاسب التي حصدتها اقتصادات الدول الناهضة والدول منخفضة الدخل منذ الأزمة المالية العالمية، يمكن أن تتبدد وتتحول إلى خسائر».
وأشار الصندوق إلى أن اتساع تفاوت الدخول له أثر واضح على معيشة الشعوب، وقد أجرى خبراء المؤسسة المالية الدولية تقييماً للتطور الذي طرأ قبيل تفشي الوباء وقارنوه بما يمكن توقعه على مستوى الرفاه خلال عام 2020، مستخدمين في ذلك مؤشرات أبعد من الناتج المحلي الإجمالي. واستخدم الخبراء معيار «الرفاه» الذي يمزج بين البيانات الخاصة بنمو الاستهلاك، ومتوسط العمر، وأوقات الفراغ، وعدم المساواة في الاستهلاك.
وفي ضوء تلك المقاييس والمقارنات بين عامي 2019 و2020، وجد الخبراء أن الدول الناهضة والنامية تمتعت بنمو في مستوى الرفاه نسبته نحو 6 في المائة، وهو ما يزيد بواقع 1.3 في المائة مقارنة بنصيب الفرد من النمو الحقيقي في الناتج المحلي الإجمالي، بما يؤشر إلى أن كثيراً من أوجه حياة الناس عرفت تحسناً وتطوراً، ويعزى ذلك في معظمه إلى التحسينات التي طرأت على متوسط الأعمار وارتفاعها.
ولفت التقرير إلى أن الوباء قد يقلص مستوى الرفاه بنسبة 8 نقاط في الأسواق الناهضة والبلدان النامية، وأكثر من نصف تلك النسبة يعود إلى التغيرات الزائدة في مستوى التفاوت وعدم المساواة في الدخول الناجمة عن قدرة الأفراد على العمل من المنزل، لافتاً إلى أن تلك المعدلات لا تعكس ولا تتضمن أثر أي تدابير لإعادة توزيع للدخل في أعقاب انتهاء الوباء. وهو الأمر الذي يعني، حسبما قاله الصندوق، أن الدول بوسعها تقليل أثر التفاوت وعدم المساواة في الدخول والأثر على مستوى الرفاه بصفة عامة باتخاذها سياسات سليمة.
وفي ختام التقرير، تحدث خبراء الصندوق عن السياسات المطلوبة لتخفيف التأثيرات السلبية على تفاوت الدخول ومستويات الرفاهية، وسبل دعم المضارين من الأفراد والشركات للحيلولة دون اتساع الفجوات في الدخول وزيادة التفاوت بين الطبقات، مؤكدين أن الاستثمار في برامج إعادة التدريب وإكساب مهارات جديدة يمكن أن يعزز من آفاق إعادة تشغيل العمالة التي خرجت من سوق العمل، خصوصاً بالنسبة للعاملين الذين طرأت على وظائفهم تغيرات حرجة جراء الوباء.
وفي الوقت نفسه، دعا التقرير دول العالم إلى توسيع وزيادة القدرة على الوصول إلى خدمات الإنترنت لمواطنيها وتشجيع الشمول المالي بما يساعد على مزيد من التأهيل والتكيف للتعاطي مع عالم تزداد فيه رقمنة الأعمال والأنشطة.
وأكد الصندوق على ضرورة العناية بتخفيف المعايير المطلوبة لحصول العاطلين عن العمل على إعانات بطالة، والتوسع في منح مساعدات للأسر والمرضى بما يحاصر تأثيرات الوباء على بيئة العمل والوظائف، كما دعا إلى تقديم مساعدات اجتماعية في شكل تحويلات مالية مشروطة، وكوبونات سلع وأغذية، ومزايا للحصول على تغذية وأدوية للأسر متدنية الدخل وعدم التوقف عنها بشكل فجائي.
وأكد التقرير أن السياسات الموضوعة للحيلولة دون فقدان المكاسب التي تحققت على مدار عقود، «من الأمور الجوهرية والحيوية للتأكيد على قدرتنا على الخروج من الأزمة إلى مستقبل أكثر عدالة وازدهاراً».