صندوق النقد … مؤسسة سيئة السمعة

لم تحظَ مؤسسة مالية دولية في العصر الحديث بأوصاف سيئة ومهينة مثلما حظي صندوق النقد الدولي، فهو، من وجهة نظر منتقديه، مؤسسة تؤدي سياساتها إلى الخراب الاقتصادي والمالي للدول التي تستنجد بها، كما تلعب دورا في زيادة أسعار السلع والخدمات بمعدلات قياسية، وبالتالي المساعدة في قتل الفقراء وقهر المحرومين والقضاء على الطبقة الوسطى بدلاً من العمل على انقاذ كل هؤلاء.

وصندوق النقد أداة الدول الكبرى والأثرياء في قتل ملايين الجوعى والمحتاجين، وضياع ملايين من فرص العمل، وإهدار الثروات الوطنية، وتأليب الشعوب على حكامها، وهو عصا الأنظمة المستبدة الغليظة التي تؤدب بها شعوبها، خاصة تلك الشعوب التي تطالب بالتوزيع العادل للثروات والحصول على نصيبها في ثروات بلادها.

والصندوق هو من يغرق الدول المدينة في أوحال الفقر والبطالة والمجاعة والديون والمشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي لا حصر لها، وبالتالي القضاء على الأجيال المقبلة في هذه الدول.

والصندوق، الذي تأسس في عام 1944 بموجب معاهدة دولية، بات اليد الطولى للولايات المتحدة، ومعها الدول المسيطرة على قراراته، لمنح مليارات الدولارات للأنظمة التي يرضى عنها ساكنو البيت الأبيض وأصحاب منظومة بريتون وودز، حتى ولو كانت تلك الأنظمة استبدادية، ديكتاتورية، قمعية، تقهر الشعوب بالحديد والنار، وتمارس أبشع سياسات القتل والاعتقال خارج القانون ومن دون رقيب أو اعتبار لأي دستور، وفي المقابل منع تلك المليارات والقروض عن الدول “المارقة” من وجهة النظر الأميركية والدول الداعمة لسياسات الولايات المتحدة.

وصندوق النقد هو أداة الابتزاز المالي الأولى في العالم، وصفاته وروشتته وتعليماته واملاءاته تحولت إلى سيف مسلط على رقاب الدول الطالبة مساعدته في إنقاذها ماليا، وبالتالي قهر شعوبها ووضعها في حال زيادات قياسية في معدلات الفقر والتضخم والبطالة، واختفاء خطط التنمية، وتجاهل المشروعات الخدمية المرتبطة بالمواطن.

وحديثا، بات الصندوق أداة الأنظمة القمعية والثورات المضادة لمساعدتها على عزل الحكومات المنتخبة ومحاربة الثورات الشعبية واقتلاع “الإسلام السياسي” وغيرها من الأمور التي تسعي الأنظمة، صاحبة الثروات الضخمة والصناديق السيادية، إلى فرضها على دول المنطقة لقهر تطلعات شعوبها بمساعدة ترامب وإدارته.

الأمثلة كثيرة حول دور الصندوق التخريبي والمدمر في العالم، ومنذ سنوات سُئل مهاتير محمد، رئيس وزراء ماليزيا السابق، عن سر نهضة بلاده، فقال: “خالفت توصيات صندوق النقد الدولي، وفعلت عكس ما طلبه من إجراءات”.

بل إن الخبير الألماني أرنست فولف، أستاذ الفلسفة في جامعة بريتوريا، وصف في كتابه “صندوق النقد الدولي: قوة عظمى في الساحة العالمية” تدخلات الصندوق في الدول المتعثرة بأنها “تبدو في الواقع أشبه ما تكون بغزوات جيوش متحاربة، ففي كل تدخلاته ينتهك سيادة الدول، ويجبرها على تنفيذ إجراءات ترفضها الأغلبية العظمى للمواطنين، وتخلف وراءها مساحة عريضة من خراب اقتصادي واجتماعي. وفي كل هذه التدخلات لم يستخدم الصندوق أسلحة أو جنوداً، بل كان يستعين بوسيلة غاية في البساطة، وبواحدة من آليات النظام الرأسمالي، أعني عملية التمويل”.

وعلى الرغم من أن العالم يتغير سريعا في فترة ما بعد كورونا، إلا أن وصفات الصندوق السامة ظلت ثابتة طوال سنوات طويلة، وتطبق على كل الدول المتعثرة، بغض النظر عن ظروفها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.

الوصفة معروفة، ومن أبرز ملامحها تعويم العملات الوطنية مقابل الدولار، كما حدث مع كل الدول التي استنجدت بالصندوق، وسيتكرر المشهد مع دول أخرى دخلت حلبة التفاوض أو كادت مثل لبنان والسودان والجزائر والمغرب وتونس، وكذا إلغاء الدعم الحكومي المقدم لملايين الفقراء، خاصة لسلع وخدمات أساسية مثل الوقود (بنزين وسولار وغاز) والكهرباء والمياه، والتفريط في أصول الدولة عبر خصخصة الشركات وبيعها للمستثمرين الأجانب.

كما أن نصيحة الصندوق لكل الحكومات المتعثرة هي زيادة الضرائب والجمارك والرسوم، بغض النظر عن الظروف التي يمر بها الاقتصاد والمواطن، وهو ما يؤدي إلى حدوث شلل في الأسواق، وتآكل القدرة الشرائية للمواطن، وإفلاس الشركات، وانهيار العملات الوطنية، مع إحداث هزة عنيفة تطول كل مكونات المجتمع.

دور صندوق النقد سيتعاظم خلال الفترة المقبلة مع استمرار وباء كورونا والخسائر الضخمة الناتجة عنه، وزيادة الأزمات المالية والاقتصادية التي يمر بها العالم والتي قد تفوق حدتها أزمة الكساد الكبير في عام 1929، والأزمة المالية العالمية في عام 2008، وستلجأ العديد من دول العالم إلى الصندوق للاقتراض منه حتى لا تنهار موازناتها العامة واحتياطياتها النقدية، وبالتالي فإن الصندوق سيتحول إلى قوة عظمى على الساحة الدولية كما حدث عقب الحرب العالمية الثانية في عام 1945.

وليس صحيحا أن الصندوق بات من مؤسسات الماضي التي يجب أن تختفي بسبب حاجة العالم الملحة له في الفترة المقبلة مع زيادة الخسائر الناتجة عن استمرار تفشي الوباء.

لكن مع هذا التعاظم، هل سيعدل الصندوق من سياساته التي تقهر الفقراء والعاطلين عن العمل لحساب الأثرياء والأنظمة الحاكمة؟ هل يمكن أن يخرج القائمون على إدارة الصندوق، ولو لمرة واحدة، لمطالبة حكومات الدول التي تعاني من تعثر مالي واقتصادي بالحد من فسادهم، والتوقف عن نهب ثروات شعوبهم، والتوزيع العادل للثروة، ومكافحة التهرب الضريبي، بدلا من المطالبة بزيادة أسعار السلع الغذائية، وإلغاء دعم الوقود ورغيف الخبز والدقيق وغاز الطهي، وإلغاء مجانية التعليم والصحة وغيرها من الأمور المعيشية المتعلقة مباشرة بالفقراء؟

الملفت أنه رغم هذه الصورة السوداوية المرسومة من قبل الجميع عن صندوق النقد الدولي، إلا أن كبار مسؤوليه لا يبذلون ولو جهدا قليلا لتغيير هذه الصورة النمطية وتحسينها، وكأنهم راضون عنها، أو سعداء بتلك الأوصاف التي تطلق على أسوأ مؤسسة مالية دولية عرفها العصر الحديث.

 

 

مصدرالعربي الجديد - مصطفى عبد السلام
المادة السابقةلأول مرة.. القيمة السوقية لشركة “تسلا” الأميركية تتخطى الـ 400 مليار دولار
المقالة القادمةالفوضى الاقتصادية ومآلاتها