صندوق النقد متمسك بإقرار الـ”كابيتال كونترول” والمصارف تستبق إعادة الهيكلة بإقفال بعض الفروع

تسود المرحلة الراهنة ضبابية قاتمة لا يمكن معها التكهّن إلى أين ستسير البلاد وأين سيحطّ رحاله الاقتصاد المحتضر. لم تعد كافية نفحات الأمل التي ينتظرها اللبنانيون بفارغ الصبر، بعد سماع القليل القليل من خطوات الانفراج، خصوصاً وأن الثقة في الطبقة السياسية اقتلعت من جذورها. ​الجوع​ أكثر من كافر، والعوز غادِر لا يعفي أي مواطن يعيش في دولة منهوبة، عاثوا ​الفساد​ وأهملتها السلطات السياسية المتعاقبة لتخدم مصالحها الخاصة الحزبية أولا والسياسات الإقليمية والدولية ثانيا.

اللاعبون كثُر في لعبة المحاور وإن كانوا على مستويات متنوّعة. البعض يرسم السياسات والآخر يقودها في اتجاهات مختلفة. لقد دفع اللبناني الكثير من جيبه هو ما يزال يسدد ثمن سياسات حكومية وهندسات مالية انبثقت عنها، واستقرت على قاعدة سلب المودعين كل ما جنوه، وأفرغت صناديق ​المصارف​ من كل ما جمعوه لتمويل منظومة هدر وفساد في مؤسسات وإدارات عامة، ونفقات مكّثفة في مزاريب الاستزلام و​المحاصصة​ الجشعة.

“تتقدم أولوية الإصلاحات الجذرية السريعة في أي رؤية لمكوّنات الاقتصاد على ما عداها من إجراءات، وهذا ما سمعه المسؤولون من “​صندوق النقد​ الدولي” ومن الدول الصديقة والمانحة”.

ولعل أبرزهم حثّ وزير الخارجية الفرنسية جان إيف لودريان السلطات اللبنانية على الشروع في الإصلاحات من أجل الحصول على ​دعم مالي​ من ​المجتمع الدولي​ وانتشال البلاد من الغرق الاقتصادي.

ويرى لودريان أنّ: “هناك خطر الانهيار اليوم، ويجب على السلطات اللبنانية أن تتكاتف مع بعضها البعض”، وأضاف: “أود أن أقول هنا لأصدقائنا اللبنانيين: نحن مستعدون حقا لمساعدتكم ولكن ساعدونا لكي نساعدكم”، وسأذهب في غضون أيام قليلة إلى لبنان”.

وشدد على أن “​فرنسا​ والمجتمع الدولي لا يمكنهم فعل أي شيء إذا لم يتخذ اللبنانيون المبادرات الضرورية لبدايتهم”.

حتى مع إعداد الخطط وتقارير تقييم الخسائر ليبنى عليها المقتضى، برز الخلاف بين الحكومة من جهة والمركزي و​جمعية المصارف​ من جهة أخرى.

إنه خلاف في التشخيص فأي تصوّر للعلاج؟

ووسط هذا الكم من التناقضات يتصاعد غضب المودعين الذين يريدون استعادة أموالهم وفك الضرر اللاحق بهم بفعل حجزها لدى ​المصارف التجارية​ اللبنانية لينتهي في لجوء البعض منهم إلى القضاء.

بعد عملية التطويق على إيداعات ​الدولار​، هل سيكون من اتجاه لدى المصارف في المرحلة المقبلة القريبة نحو تطبيق تقنين قاس على ال​سحوبات​ بالليرة اللبنانية بفعل ضبط السوق؟

لطالما كانت الفوائد المطبقة حافزا لجذب الودائع. ما هي معدلات الفوائد المطبقة اليوم في القطاع على الليرة اللبنانية وعلى الدولار؟ وهل يجب إعادة النظر بها؟

هل من الأفضل سحب الودائع الموجودة بالدولار بالليرة اللبنانية وفق العرض المقدم من المصارف على اساس احتسابه بـ 3850 ليرة؟ أم الأفضل تركها بالدولار؟

ما هو التغيير المرتقب أن تحدثه أي وديعة جديدة تدخل إلى لبنان؟ وما هو مجموع الودائع الخارجية اليوم الموجودة؟

بدأت خطوة إعادة الهيكلة الذاتية للقطاع ال​مصر​في، ومع بدء بعض المصارف باقفال قسم من فروعها هل هي إشارة إلى انطلاقة العملية؟

جملة اسئلة تراود كل لبناني ومودع يخشى مصير ما جناه وادخره لشيخوخته.

كبير الاقتصاديين ورئيس دائرة الأبحاث الاقتصادية والمالية في “​بنك بيبلوس​” ​نسيب غبريل​، يطمئن إلى “أنه لا وجود لأي قرار لدى المصارف بتطبيق التقنين على السحوبات بالليرة. وارتفاع سعر صرف الدولار في ​السوق السوداء​ مرتبط بالثقة”. ويقول لـ “الاقتصاد”: نحن نعيش أزمة ثقة حادة أسفرت عن شح في ​السيولة​، ما أدى بالتالي إلى تدهور في أسعار الدولار؛ فهناك 5 أسعار في السوق اللبنانية. والسوق السوداء التي تسلط الأضواء عليها هي جزء بسيط من ​الكتلة النقدية​ بالعملات الأجنبية. ولكن للأسف، السيولة متوافرة هناك والعمليات التجارية تسير على هذا الأساس.

واليوم، هناك قرار من ​مصرف لبنان​ بضخ السيولة في المصارف بدلا من شركات الصيرفة لدعم نحو 300 منتج أساسي من مواد أولية صناعية وزراعية وغيرها، وهذا من المفترض أن يساعد. إلا إنه من المفترض حل أزمة فقدان الثقة من أجل بدء ضخ السيولة وتوحيد أسعار الدولار في السوق. واستعادة الثقة يبدأ بتنفيذ الإصلاحات.

اليوم، لا نرى أي خطوة لتطبيق الإصلاحات، لا بل هناك مشاريع واقتراحات ولجان، ولكن لا شيء على الأرض. البنود الاصلاحية المفترض تطبيقها قبل الاتفاق مع “صندوق النقد” معروفة ومنها:

وقف تهريب المواد المدعومة مثل ​المازوت​، الطحين وغيرهما، ومكافحة التهرّب الجمركي.

تعيين هيئة ناظمة مستقلة لقطاع ​الكهرباء​، وإعادة إنعاش الهيئة المنظمة للاتصالات.

إلغاء آلاف الوظائف في ​القطاع العام​.

إلغاء أو دمج بعض المؤسسات العامة والمستقلة والصناديق الوهمية التي انتفى وجودها والتي لحظتها خطة الحكومة الحالية وسابقتها.

منح المؤسسات والشركات الخاصة إعفاءات من الضرائب والرسوم بما يمكنهّا من الصمود.

وضع حد لمسألة تسديد المواطنين أكثر من فاتورة كهرباء ومياه الى جانب فاتورة الاتصالات التي هي أعلى فاتورة في ​العالم العربي​.

هذه حزمة من الإصلاحات تطبيقها يعيد الثقة على المدى القصير، وانما على المدى الطويل، لا بد من الاتفاق مع صندوق النقد الدولي ليس بهدف فقط ضخ السيولة، اذ انها ستكون تدريجية مع تطبيق الاصلاحات اللازمة، ولكن اهمية الاتفاق تكمن في المصداقية التي ستواكب أي برنامج اصلاحي لدى السلطة التنفيذية. وهذا يفتح الباب امام مصادر اخرى للسيولة من مؤسسات متعددة الاطراف، صناديق تنموية واستثمارية اقليمية ودولية.

وهناك حالة شبيهة في مصر إذ بعد اتفاقها مع صندوق النقد على برنامج إصلاحي مختوم منه بقيمة 12مليار دولار وتنفيذها له استطاعت استقطاب اكثر من 12 مليار دولار من مصادر أخرى . وهنا اهمية المصداقية التي يمنحها الصندوق حيث تبدأ عملية ضخ السيولة ويتم ايجاد حل مستدام لسعر الصرف.

وانما فكرة لجوء المصارف إلى تقنين السحوبات بالليرة لا تعتبر الحل. فاليوم نملك كتلة نقدية ضخمة بالليرة في السوق وحجمها تقريبا 25 الف مليار ليرة، وقد ارتفعت في الاشهر الخمسة الاولى من العام الجاري بنسبة 50%.

الفوائد المصرفية

وحول موضوع الفوائد على الودائع يشير غبريل إلى انخفاضها بشكل كبير ؛ على الليرة من نسبة 8.72 % في آيار 2019 الى 4.63 % في آيار 2020.

وبالنسبة للدولار كان التراجع لافتا من 5.8 % في آيار 2019 إلى أقل من 2 % في آيار 2020. وقد انعكس ذلك أيضاً على ​التسليفات​ حيث تراجع معدل الفائدة عليها بالليرة من 10.8 % في آيار 2019 الى 8.45 % في آيار 2020. وأما بالنسبة للتسليفات بالدولار فكان التراجع بالفائدة من 9.54 % في آيار الى 7.9 % في آيار 2020.

ولا يجب إغفال موضوع قيام جمعية المصارف بتعديل الفائدة المرجعية Beirut Reference Rate (BRR) عدة مرات خلال العام الحالي، والتي على أساسها تحتسب الفوائد التي تدينها المصارف حيث تراجع معدل الفائدة المرجعية بالدولار بـ 586 نقطة أساس، وكذلك بالليرة بـ 574 نقطة اساس منذ بداية العام.

إلى جانب ذلك، في أول تموز، طلبت جمعية المصارف من المصارف التجارية في لبنان تحديد سقف التسليفات على الفائدة المرجعية زائد 2 %. وهذا بالطبع مؤشر على تفهّم الجمعية لاوضاع الشركات والمؤسسات مع تدبير تخفيض الفوائد على التسليفات.

ولكن، لا شك أن الأهم يبقى في تخفيض الأعباء التشغيلية الاخرى على هذه المؤسسات والشركات سيما خلال هذه الظروف؛ فموضوع الكهرباء يتصدر لائحة هذه الاعباء، ووفق ​البنك الدولي​، الكهرباء تنقطع 51 مرة في الشهر، وهي ثالث أعلى نسبة في العالم بعد ​باكستان​ و​بنغلادش​، تكلفتها السنوية عليها بنسبة 6 % من إيراداتها.

يضاف إلى تلك الاعباء التشغيلية كلفة الاتصالات، سوء نوعية ​الانترنت​، ​الضمان الاجتماعي​، الضرائب المباشرة وغير المباشرة، ​البنية التحتية​ المترهلة.

​الاقتصاد اللبناني​ يرزح برمته تحت أعباء تشغيلية بسبب سوء إدارة الشأن العام واحتكار القطاع العام لمرافق حيوية أفضى إلى ارتفاع كلفتها على المواطن، والى سحب إيرادات الشركات وميزانية العائلات.

الدولار بالليرة

وعن مغزى خطوة السماح بالسحب بالليرة اللبنانية للودائع الموجودة بالدولار، يعتبر غبريل أن كل مودع يملك حق القرار في سحب ودائعه حسب حاجاته. فالمصارف مؤتمنة على هذه الودائع. والإجراءات المتخذة هي تسهيلات مؤقتة تم اللجوء إليها في تشرين الثاني على أساس مدة معينة قصيرة، بانتظار أخذ السلطة التنفيذية المبادرة أما بدعم اجراءات الكابيتال كونترول او اخذ اجراءات لتعزيز الثقة. ولكن للأسف، الحكومة السابقة غابت كليا عن هذه المسألة، بعدها استقالت وأتت الحكومة الجديدة التي انصرفت الى مناقشة موضوع الكابيتال كونترول خلال 6 أسابيع من منتصف شباط حتى آخر آذار، ثم سحب فجأة من التداول. وبعدها طرح مشروع القانون على مجلس النواب في اخر جلسة عامة، وتمت احالته كمسودة الى لجنة المال وال​موازنة​ للدراسة الاضافية. فإقرار قانون الكابيتال كونترول من شأنه تنظيم التحويلات إلى الخارج والسحوبات في الداخل . واليوم صندوق النقد يعتبره شرطا أساسيا للوصول الى اتفاق مع السلطات اللبنانية. ويؤكد غبريل التزام المصارف بالتعاميم الصادرة عن مصرف لبنان في ما خص سعر الصرف للسحب.

الودائع

وفي ما يتعلق بحجم الودائع المصرفية يشير الى ان مجموع الودائع للقطاع الخاص بلغ 146 مليارا و300 مليون دولار حتى آخر أيار 2020. أما ودائع المقيمين فقد بلغت 117 مليارا و200 مليون دولار، بينما لغير المقيمين 29 مليارا و100 مليون دولار في أيار 2020، وهي تشكّل تقريبا 20 % من مجموع ودائع ​القطاع الخاص​.

وفي الواقع، فإن حجم الودائع في ​القطاع المصرفي​ هو في تراجع منذ أول أيلول 2019 ولغاية أيار 2020 من 26 مليار و300 مليون دولار. وقد سحب نصفها لتسديد ​قروض​ شركات، أفراد فيما ما بين 6 او 7 مليارات دولار سجلت سحوبات نقدية من قبل شركات وافراد و4 مليارات دولار تحويلات إلى الخارج. ومن المؤكد أن تراجع حجم الودائع مرتبط بأزمة الثقة التي نمرّ بها. لا بل أنها تشمل كل جوانب الاقتصاد اللبناني الذي يعتبر ضمن القطاع المصرفي.

وعن الصدمة الايجابية المرتقبة مع دخول اي وديعة مصرفية جديدة إلى لبنان يرى غبريل وجوب التريّث وعدم الخروج عن الواقع، لأنه إذا حصل ذلك فعلياً فإن هذا من شأنه تعزيز ​احتياطات​ مصرف لبنان بالعملة الاجنبية رغم أنه لا يوازي تنفيذ الاصلاحات الجذرية من اعادة هيكلة القطاع العام، وضبط النفقات العامة التي ارتفعت بين 2005 و 2019بنسبة 155 %، فيما أنه خلال تلك الفترة لم يتم اقرار اي موازنة عامة. فتوسّع وانفلاش القطاع العام أدى الى ​انكماش​ القطاع الخاص. الوديعة الخارجية إذا أتت مشكورة، وهي دعم مؤقت، ولكن من الواضح أن ثمة إصرارا من المجتمع الدولي والدول العربية على ضرورة الاتفاق مع صندوق النقد الذي هو مفتاح تدفق رؤوس الأموال إلى لبنان.

اما ماذا عن مشروع اعادة الهيكلة الذاتية للمصارف وخطوة اقفال الفروع اعتبر غبريل أن ضغط السوق يؤدي إلى دمج بعض الفروع . شح السيولة والتنافس بين المصارف يؤدي الى اعادة هيكلة القطاع . وهذا يتم بقرار من مجالس ادارة المصارف ، وموافقة المساهمين في ​الجمعيات العمومية​. ومؤخرا أصدر مصرف لبنان مذكرة إدارية حملت الرقم 2272، أعلن بموجبها تشكيل “لجنة إعادة هيكلة المصارف”، وهي خطوة لافتة من المفترض التوقف عندها . والجدير ذكره، أن مصرف لبنان هو الجهة الوحيدة الرسمية المخوّلة الإشراف على إعادة هيكلة قطاع المصارف، سحب الرخص. وفي اللجنة اليوم من يمثّل اعضاء المصارف. وبالتالي، يجب على المصارف أن تكون في ​صلب​ القرار. لا تستطيع السلطة التنفيذية إنشاء 5 مصارف جديدة ووضع اليد على المصارف التجارية، علما أن هذا لا ينطبق فقط على القطاع المصرفي ولكن ثمة ضغوطات على قطاعات أخرى للتملك والدمج واعادة الهيكلة. نذكر أنه في بداية التسعينات كان لدينا 92 مصرفا تجاريا، بعد انتهاء الحرب، وبإشراف مصرف لبنان تراجع العدد الى 47 مصرفا تجاريا و16 مصرفا متخصصا للتسليف المتوسط والطويل الأجل بعد سحب الرخص وإعطاء التحفيزات اللازمة للدمج. اي عملية اعادة هيكلة تتم باشراف مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف، وبقرار من مجالس إدارة هذه المصارف وموافقة أعضاء الجمعية العمومية ما يعزّز الثقة بالقطاع وبالاقتصاد اللبناني على حد سواء.

في ضوء توضيحات كبير الاقتصاديين، ومن ضمن مقاربة سليمة وعلمية لوضع القطاع المصرفي المؤتمن على أموال المودعين، لا يجب إغفال مسألة أن أي تعرّض للقطاع هي بمثابة جلد للذات، خصوصا أنه ركن أساسي في عجلة الاقتصاد، وقد استطاع جذب الثقة الدولية بأدائه في مراحل مختلفة وإن فاتته بعض الضوابط في تشريع الاستدانة.

مصدررولى راشد - النشرة الاقتصادية
المادة السابقة“مياه بيروت وجبل لبنان”: إلغاء 16 مناقصة لعدم قبول المتعهدين والموردين بنسب الربح
المقالة القادمةصندوق النقد: هيمنة الدولار الأميركي قد تضخم تداعيات “كورونا”