في الحرب، نرى التاريخ يُعيد نفسه في لبنان من حرب الـ72 إلى حرب تموز 2006 وصولاً إلى اليوم… لكن ليتَه كذلك في الدعم المالي الذي طالما مَدَّه به المجتمع الدولي عند كل أزمة اقتصادية ومالية يرزح تحتها… كما لطالما كان أول الداعمين صندوق النقد والبنك الدوليَين. أين هما منه اليوم بعدما فشِل صندوق النقد حتى اللحظة في التوصّل إلى اتفاق مع لبنان يُنقذه من بليّة وضعه الاقتصادي والمالي المذري بفعل انهيار نقدي تاريخي… فكيف سيكون اليوم في ظل العدوان الإسرائيلي المستعِر على لبنان الذي تسبّب حتى اليوم بخسائر تُقدَّر بـ10 مليارات دولار؟!
…”من السابق لأوانه تقييم التأثيرات الاقتصادية للصراع المتصاعد بين إسرائيل و”حزب الله” على لبنان”، الموقف لصندوق النقد الدولي اليوم في معرض إعلانه أنه “يراقب تأثير هذا الصراع المتصاعد على لبنان الذي يعاني من خسائر بشرية وتدمير في البنية التحتية”، مشيراً إلى أن “الصراع الحالي يؤدّي إلى تفاقم الوضع الاقتصادي الكلي والاجتماعي الهَش بالفعل في لبنان”.
رئيس الجمعية الاقتصادية اللبنانية ومحاضر في الاقتصاد في الجامعة الاميركية الدكتور منير راشد يتوافق الرأي مع صندوق النقد في أنه من المبكر تقييم الخسائر بالأرقام، لكنه يشير إلى “خسارة لبنان كامل حركته السياحية التي كانت تدرّ 7 أو 8 مليارات سنوياً، فيما الشلل أصاب اقتصاد الجنوب وتضرّرت اقتصادات مناطق عديدة في المحافظات الأخرى… كل ذلك معطوف على النزوح الكثيف من البلدات الجنوبية إلى مناطق أخرى من لبنان حيث تتعادل الإنتاجية بين تقلّصها في الجنوب وارتفاع منسوبها قليلاً في المناطق المستضيفة حيث تنفق العائلات النازحة على الإيجار والمأكل… لكن التأثير هنا يبقى محدوداً جداً، في مقابل التأثيرات السلبية الكبيرة على الاقتصاد اللبناني برمّته… كل ذلك في ظل شلل حكومي فاقع وتعطّل مجلس النواب إلى حدّ الشلل.
نعي اتفاق صندوق النقد!
في المقلب الآخر، يتجدّد السؤال عن مصير الاتفاق الذي تم بالتوقيع الأوّلي بين لبنان وصندوق النقد الدولي وعما إذا كان يجوز اليوم نعي هذا الاتفاق في ظل هذه التطورات الدراماتيكية، يُجيب راشد “لقد نَعَينا اتفاق صندوق النقد منذ زمن وليس اليوم، نظراً إلى استحالته!”.
ويعتبر عبر “المركزية” أن “هذا الاتفاق من غير الممكن إبرامه، وهذه الاستحالة سبقت التصعيد الأمني بين إسرائيل و”حزب الله”… ويعزو هذه الاستحالة إلى كون “صندوق النقد يعتبر أن الدين العام اللبناني يوازي 500% من الناتج المحلي، فيما صندوق النقد لا يُقرض بلداً يحمل هذا الكَم من الدين! لذلك يقترح شطب ودائع المصارف في مصرف لبنان البالغة 70 مليار دولار”.
ويُتابع في السياق: يطالب الصندوق باستبعاد المخاطر السيادية المرتفعة للبنان، من خلال شطب التزامات مصرف لبنان للمصارف، والتي هي أيضاً التزامات على الدولة”. فلن يتمّ الاتفاق على برنامج مع صندوق النقد من دون شطب معظم الودائع ورأسمال المصارف مقابل أصولها من ودائعها في مصرف لبنان… وهذا غير ممكن على الإطلاق. في حين يبرّر صندوق النقد موقفه بأنّ الوضع القائم هو “حالة إفلاس وليس حالة تعثر”.
ويقول: في واقع الأمر إن مصرف لبنان والدولة ليسا مفلسين. الإفلاس يستوجب التصفية، وللدولة والمصرف المركزي الكفاية من الأصول تفوق التزاماتهما. فالأزمة هي أزمة سيولة، وهذا مغاير لمعنى الإفلاس. عند بدء الأزمة كان لدى مصرف لبنان 50 مليار دولار من الاحتياطات، وقد فاق الدين بالدولار، وكان يوازي ما يُفترض أن تكون خسارة مصرف لبنان.
ويختم راشد بالإشارة إلى أن “الحل البديل للسلطة هو تأمين الثقة والسيولة أولاً، وليس بشطب الودائع او إعادتها”.
الأمل إذاً معدومٌ في إنقاذ لبنان عبر رفده بأي جرعة دعم مالي من المجتمع الدولي وتحديداً من صندوق النقد والبنك الدوليَين… وتبقى القناعة كنزاً بالاكتفاء بالمساعدات الطبيّة الدولية التي تعوّض الخسائر الاقتصادية بإنقاذ الأرواح.. إن أمكن.