صندوق للمودعين نضع فيه سمكاً… لبناً وتمراً هندياً!

إعتقد رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، قبل عدة أشهر، أن مجرد الإعلان عن اتفاق أولي مع صندوق النقد الدولي سيجعله «المنقذ» من ضلال ضياع 33 شهراً من دون أي علاج ناجع لتداعيات الأزمة المتدحرجة بشراسة. ظنّ واهماً أن في الطبقتين السياسية والمصرفية من سيلبي فوراً نداء البدء بالإصلاح، ويسلّمه لواء الإنقاذ طوعاً لمجرد ترويج «وهم» أنه مدعوم دولياً.

ما سبق لا يعني بالضرورة أن ميقاتي يتماهى مع نائبه سعادة الشامي في قناعة الأخير بأن الاتفاق هو خشبة الخلاص شبه الوحيدة رغم الآلام المريرة التي سيتجرّع كأسها المرة كبار المودعين. إذ ثمة فرق جوهري بين الإثنين: الأول طامح سياسي دائم مع ما يعني ذلك من نزاهة محدودة تفترض إتقان التشقلب، والثاني تكنوقراط على جانب من النزاهة المهنية السوية المجردة من السياسة.

لم ينطبق حساب الحقل الاقتصادي على البيدر السياسي

في خلال 9 أشهر، أطلق ميقاتي جملة وعود اقتصادية لم يتحقق منها شيء، رغم أنه حاول تمرير ما سمي بخطة التعافي عشية الانتخابات وتسويق ضرورة تلبية الشروط المسبقة الواردة في ورقة الاتفاق المبدئي مع صندوق النقد. فحصلت المفاجأة الأولى برفض وزراء الثنائي الشيعي تلك الخطة. وقمة تناقض ذلك الثنائي تجلت في أنه بقي أشد المتحمسين لإعادة تكليف ميقاتي تشكيل حكومة ما بعد الانتخابات. بالشكل، يعزّزونه بالسياسة المشروطة، وفي المضمون يقودونه في معظم ما عدا ذلك حتى لو اقتضى الأمر نسف خطة التعافي تحت شعارات شعبوية أبرزها «قدسية الودائع».

المفاجأة الثانية أتت من جمعية المصارف التي وافقت على الخطة، ثم انقلبت عليها بهجوم شرس يساوي هجومها على الخطة التي وضعتها حكومة حسان دياب في 2020. وكرّت سبحة الانتقاد وصولاً الى كلام مباشر للبطريرك الماروني مار بطرس الراعي في بداية حزيران الماضي يؤكد فيه ضرورة «التدقيق بخطة التعافي التي حصدت انتقادات أكثر من الاستحسان، لأنها وضعت على حساب المودعين ونظام الاقتصاد الحر». وذهب البطريرك حدّ التحذير من «خطة إفقار تؤدي إلى ما لا تحمد عقباه».

محاولة فاشلة لتسويق الاتفاق مع صندوق النقد

لم ينفع ظهور ميقاتي في حوار مع «الجديد» أواخر أيار الماضي وهو يدافع عن الخطة، وكيف أن الأولوية لصغار المودعين دون غيرهم، وكفى الله المؤمنين شرّ القتال!

كما لم تنفع طلّات نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي، على أكثر من منبر، وتركزت على تحييد أصول الدولة عن أي استخدام لتعويض أصحاب ودائع كبيرة، أعدادهم ضئيلة قياساً بعدد السكان، أما ودائعهم فبعشرات المليارات المستحيلة التوفير على حساب المجتمع الفقير والمال العام المتهالك.

انتظر ميقاتي إعادة تكليفه لتشكيل الحكومة وعاد الى فريقه طالباً حلاً ما، حتى لو اقتضى الأمر تقديم صيغ شكلية قابلة للتسويق سياسياً. وبدأ الأمر بالتنكر لفكرة شطب 60 مليار دولار من خسائر مصرف لبنان. فذلك الشطب اتضح أنه شطب لودائع أيضاً.

 

بالأرقام يجدر التذكير بجملة حقائق مرة كالعلقم

هناك ودائع بـ100 مليار دولار لم يبق منها إلا 10 مليارات في مصرف لبنان. ويضاف اليها قيمة الذهب وموجودات أخرى ضئيلة بإجمالي 20 مليار دولار.

وللمصارف نحو 80 ملياراً في شهادات إيداع البنك المركزي، وهي تحمل سندات يوروبوندز بقيمة اسمية تبلغ نحو 10 مليارات، ولها بذمة القطاع الخاص (شركات وأفراداً) 14 مليار دولار قروضاً، بالإضافة الى موجودات أخرى، عقارية منها وغير عقارية. إذ تقدر الموجودات الباقية في القطاع المصرفي بنحو 30 مليار دولار. لذا أتت خطة التعافي لتضمن ودائع حتى 100 ألف دولار بما قيمته 30 ملياراً تقريباً، ما يعني أن مبلغ 70 ملياراً من اجمالي الودائع بات غير مضمون، ويجب ايجاد حل له بطريقة ما خارج القطاع المصرفي.

صندوق لأصحاب الودائع التي تفوق 100 ألف دولار

تفتقت الأفكارعن هندسة شكلية تقضي بإطلاق فكرة صندوق تحدث عنه ميقاتي في اجتماع لجنة المال والموازنة الأسبوع الماضي، خاص بالودائع التي تزيد على 100 ألف دولار.

ويجري حالياً تداول ما يمكن وضعه في هذا الصندوق. وبين الأفكار 10 مليارات دولار تحول إليه من شهادات ايداع للمصارف في ذمة البنك المركزي. ويضاف الى ذلك وعد تخصيص جزء من الفائض الأولي المستقبلي الذي تحققه الموازنة. فإذا تحقق فائض بنسبة 2% وما فوق من الناتج يذهب نصفه الى الصندوق العتيد. كما تضاف نسبة من الرساميل الجديدة التي على المصارف ضخها لإعادة رسملة القطاع، بالإضافة الى أموال منهوبة قابلة للاسترداد…

وفي المقترحات أيضاً رد الودائع الواقعة بين ١٠٠ ألف ومليون دولار الى اصحابها بالليرة. كل ذلك مقابل إخراج المصارف من مواجهة المودعين. على أن تصبح علاقة المودع مع الصندوق.

ما هي الملاحظات التي يمكن وضعها على الأفكار المتداولة، ولو أنها غير نهائية؟

مسلسل محكم الحلقات لتبرئة المصارف وملّاكها

من حيث الشكل والمضمون معاً هناك تبرئة للمصارف ومصرف لبنان. فمقابل التزامها برد ودائع الـ100 ألف دولار تعمل الحكومة على بناء سور حماية قانونية حول البنوك وإعفائها من مسؤوليات جسيمة عليها وعلى ملاكها في ما لو طبّقت القوانين المرعية الإجراء مثل قانون 2/67 أو أي نصوص تجريمية في التشريعات المقترحة لإعادة الهيكلة والكابيتال كونترول وتعديل السرية المصرفية. مع الصندوق، تتكرس فكرة أن المصارف لم تبدد ودائع الناس، وأن الدولة تتحمل مسؤوليتها بشكل أو بآخر.

…ومع ذلك، لا توافق البنوك على الرسملة من جديد

يمكن للمصارف أن تقبل، مبدئياً وبصعوبة، إذا اقتصر الأمر على التزامها بودائع الـ100 ألف دولار فقط. لكن عليها الرسملة من جديد، وهذا ما تحاول تجنب استحقاقه (القانوني والمحاسبي المحق) منذ اليوم الأول للأزمة، بادعاء أنها لم تخسر بل إن الدولة (ومصرفها المركزي) بدّدا أموال المودعين! وللحفاظ على رساميلها، البالغة نظرياً 14 إلى 15 مليار دولار، تخوض معارك شرسة على أكثر من جبهة. ولا عجب إذا عادت، دائماً وأبداً، الى تجديد المطالبة برهن إيرادات مرافق الدولة وأصولها لمقابلة حقوق المودعين. علماً بأن الحل المقترح يفترض (زوراً) أن البنوك لم تخسر، وبالتالي تستمر كلها في العمل سواسية من دون تمييز بينها. وهذا ينافي ما طلبه صندوق النقد لجهة فحص جودة الأصول لمعرفة من يبقى ومن يتجه للتصفية.

المطروح لا يرد أكثر من 15-20% من الحقوق

القيمة النظرية الحالية لوحدات الصندوق بعيدة جداً عن مبلغ الـ70 مليار دولار (أي الودائع الواجب ردّها)، وقد لا تتراوح النسبة بين 15 و20% في أحسن الأحوال في غضون السنوات العشر المقبلة. ففي الصندوق 10 مليارات شهادات ايداع مستمرة هي وفوائدها كالتزامات على البنك المركزي، بالاضافة الى وعد تخصيص جزء من الفائض الأولي في الموازنة. وليصدق الوعد يجب تحقيق نمو اقتصادي جامح على الدوام، ينتج عنه ايرادات متعاظمة. فيما البلد يرزح تحت نير فقدان معظم ميزاته التفاضلية ومقومات صموده. ومرشح ليعيش، وفق تقارير البنك الدولي، سنوات طويلة مقبلة بالحد الأدنى من دون تفاؤل كبير بإصلاحات جذرية تعيده الى جادة صواب الحوكمة السليمة والنمو المستدام، والسبب يكمن، أولاً وأخيراً، في كيفية ممارسة نظامه الطائفي للتحاصص والزبائنية.

أما القيمة التي ستضعها المصارف في الصندوق من رأسمالها الجديد فستتراوح (في أفضل التقديرات) بين 300 و500 مليون دولار، بما لا يشكل شيئاً يذكر مقابل 70 ملياراً من حقوق الودائع.

فرق كبير بين تملك «وحدة» في الصندوق أو ورقة دين

للنقاش الدائر، بين منح وحدات في الصندوق أو أوراق دين يحملها المودعون، أهمية قصوى. فالوحدات يفترض أن عمرها بين 14 و20 سنة على غرار شركات ذات غرض خاص تنشأ في حالات مماثلة وتنتهي بأجل أو عمر محدد. أما ورقة الدين فتبقى أبدية وتجبر الدولة لاحقاً على ضرورة ضخ المزيد في الصندوق لمقابلة الطلبات المستحقة. وهنا نعود الى جدلية رهن أصول الدولة وإيراداتها لمجموعة قليلة من المودعين لا تتجاوز 1% من السكان.

رهن إيرادات الغاز… وعد مؤجل 7 سنوات على الأقل

في ذهن القيمين على فكرة الصندوق رهان على ايرادات الغاز المستقبلية، علماً أن تقارير رسمية تؤكد أن لا ايرادات ممكنة قبل العام 2030 شرط البدء اليوم في الاستكشاف والتنقيب، ثم الحفر والإنتاج في حال إيجاد كميات تجارية في المكامن. فإذا تدفقت تلك الايرادات بالمليارات فسيتحقق بفعلها فائض أولي في الموازنة يذهب جزء منه الى الصندوق، فنعود الى فكرة رهن أصول عامة لرد ودائع عدة آلاف من المودعين.

باب جديد للتوزيع الزبائني عند الضرورة السياسية

 

بيد السلطة السياسية مفاتيح اللعبة لتجيير الصندوق لأغراضها عندما تشاء، لا سيما في المواسم الانتخابية والاستحقاقات السياسية التي تتطلب شراء ولاءات. إذ باستطاعة السلطة عصر النفقات وزيادة الرسوم والضرائب لتحقيق فائض أولي في الموازنة يستخدم جزء منه في التوزيع الزبائني على الطريقة اللبنانية المجربة في مدى 30 سنة ماضية.

المودعون سواسية سواء كانوا فاسدين أم شرفاء

تتجاوز فكرة الصندوق أي تدقيق في بنية الودائع، ويستوي فيها الفاسد ومبيض الأموال والمتهرب من الضرائب مع صاحب الوديعة النظيفة المستحقة من عمل وجهد وتعب ونجاح. كما يتجاوز الصندوق أفكار شطب الفوائد التي تراكمت كالربا الفاحش، ويتنصل من ممارسة معمول بها دولياً في حالات مماثلة تقوم على تمليك مودعين أسهماً في البنوك (بايل إن). وليس في المطروح ما يطمئن إلى استرداد المليارات المحولة الى الخارج بعد 17 تشرين 2019 بشكل استنسابي أفاد منه مودعون أصحاب نفوذ، مقابل ترك كل الآخرين على قارعة تعاميم حاكم مصرف لبنان العشوائية والمشرعة للهيركات القاسي والظالم.

لن يوافق صندوق النقد على التوسع باستخدام ايرادات الدولة

عند إعادة قراءة الاتفاق الأولي مع صندوق النقد يمكن الاستنتاج بأن الصندوق لن يقبل بما يطرح، لا سيما رهن إيرادات وأصول عامة على النحو الذي يروجون له لارضاء كبار المودعين وتمرير ألاعيب شعبوية وسياسية لا تمت بصلة للعمل المالي الحصيف، خصوصاً ضرورة استدامة الدين العام وتخصيص موارد الدولة للإنفاق الاجتماعي لزوم حماية الفقراء ونسبتهم 80% من السكان، ولزوم الإنفاق الاستثماري لتحقيق النمو وخلق فرص العمل.

إلى ذلك، ماذا عن حملة سندات اليوروبوندز؟ فهل سيقبلون طروحات كهذه بطيب خاطر بينما تعرض عليهم حكومة لبنان هيركات يصل إلى 85% من القيمة الاسمية لاستثماراتهم؟

خلاصة مبدئية

خلاصة القول إن التذاكي الجديد لرئيس الحكومة لا يعدو كونه ارتجالاً لا أساس علمياً له، ليقتصر على فكرة صندوق نضع فيه أصولاً مسمومة، على قاعدة وليمة سمك نافق ولبن محمض وتمر هندي فاسد… وليمة دونها التقزز والتسمم إذا قبل بها أو أقبل عليها المودعون… لكن هيهات!

مصدرنداء الوطن - منير يونس
المادة السابقة“المركزي” ينشر معلومات حول موجوداته الذهبية
المقالة القادمةلا توجّه سياسياً ملموساً لتعديل السرية المصرفية… حتى الآن!