“صيرفة” في خدمة المنظومة بالدرجة الأولى

في ظل الفراغ الاصلاحي القاتل، يستمر مصرف لبنان في ادارة الدفة المالية والمصرفية على طريقته المشهورة عنه: توزيع المنافع بما يرضي السياسيين والتجار والمستوردين والمصرفيين بالدرجة الاولى. ومن الادوات التي يستخدمها لذلك منصة صيرفة التي تحقق ارباحاً للحسابات والقدرات المالية الكبيرة بأضعاف مضاعفة مقارنة مع فتات للافراد العاديين وموظفي القطاع العام من خلال التعميم 161.

حل غير مستدام

يجزم الخبير الاقتصادي جان طويلة أن «المستفيد الاساسي من صيرفة هي المصارف»، شارحاً لـ»نداء الوطن» أنه «بعد الازمة تقلصت خدماتها للزبائن وايضاً العمولات التي تتقاضاها من هذه الخدمات. وباتت تقتصر هذه الخدمات على ايداع وسحب الكاش وايضاً خدمات الصراف الآلي ومنصة صيرفة، وهذا يؤمن لها مداخيل وارباح»، ويلفت الى أن «المركزي هو المستفيد الثاني من خلال تنفيذ خطته لتحويل الودائع الى الليرة اللبنانية وتقليص حجم الفجوة المالية (ولو بكلفة باهظة على المودعين) وعلى حساب قيمة الليرة اللبنانية، وبين المستفيدين أيضاً هم الصرافون. والثمن الاكبر يدفعه المواطن اللبناني، لأن الحلول قصيرة الامد وليست مستدامة لتحقيق الاستقرار النقدي واعادة رسملة وهيكلة القطاع المصرفي لاستعادة دوره من جديد». يضيف: «لسوء الحظ، صيرفة تستعمل كأداة سياسية كي لا تنفذ الطبقة السياسية الاصلاحات المطلوبة منها. وكل ذلك على حساب الاحتياطي الموجود لديه، والدليل انخفاض هذا الاحتياطي من 32 مليار دولار 2019 الى اقل من 9 مليارات اليوم، بسبب سياسة الدعم التي نفذت في بداية الازمة، ومن خلال عمليات صيرفة والتدخل في السوق بطريقة غير مجدية ومكلفة، ولا توصل الى نتيجة».

ويختم: «صيرفة أقرب الى مسكّن سندفع ثمنه غالياً قريباً، لأنه مع استمرار هذه السياسة لن يتمكن المودعون حتى الذين تقل ودائعهم عن 100 الف دولار من استردادها».

حبل مطاط سينقطع

في محاولة لرسم خريطة المستفيدين من صيرفة يشرح الخبير المالي ميشال قزح لـ»نداء الوطن» أن «حركة صيرفة تتمحور بين 140 و145 مليون دولار يومياً هذه الأيام. هذه الحركة يمكن تقسيم خريطة الاستفادة منها على اربعة عناصر: الاول الافراد الذين يبدلون ليراتهم بدولارات من صيرفة ثم يبيعونها للصرافين وتعود لمصرف لبنان، وهذه المبالغ هي نفسها التي تدور في السوق. والثاني هو التاجر الذي يصرف الدولارات عبر صيرفة فيحقق ربحاً صافياً قدره 8 بالمئة، والثالث هو الصراف الذي يربح بين 200 و300 ليرة عن كل دولار، والرابع هو المصرف الذي يتراوح ربحه بين 2 و4 بالمئة من قيمة التداول على المنصة».

يضيف: «هناك اصحاب نفوذ يتربّحون أكثر من ذلك، وهم المساهمون واعضاء مجالس الادارة في المصارف من خلال تعدد الحسابات التي يملكونها في اكثر من مصرف، ويحولون عبرها الليرة الى دولار وليس هناك ضوابط على هذا الموضوع». مشدداً على أن «كل هذه الدورة المالية التي تؤمنها «صيرفة» هي خسارات يتحملها المركزي وتترجم بهيركات على أموال المودعين، وانخفاض اضافي في احتياطي المركزي بالعملة الاجنبية، بالاضافة الى رفع دولار السوق السوداء مقابل الليرة اللبنانية، وهذه العملية أقرب الى حبل المطاط الذي يتم شده الى اقصى الحدود حتى ينفلت من عقاله بعدها».

يؤكد قزح أن «الخسارات التي تحصل عبر صيرفة، ستنعكس عاجلاً او آجلاً على سعر صرف الليرة مقابل الدولار، وعلى القدرة على رد اموال المودعين. ففي بداية الازمة كان يمكن انقاذ المودعين ممن يملكون اقل من مليون دولار، حالياً لم يعد بالامكان انقاذ من يملك 100 الف دولار. واذا استمرينا على هذا المنوال لن يتم انقاذ حتى من يملك 50 الف دولار»، موضحاً أن «المركزي يؤمن جزءاً من دولارات صيرفة من اموال اتتنا من صندوق النقد SDR واموال جمعيات ومساعدات الامم المتحدة، وبالاضافة الى حركة بيع وشراء الدولارات في السوق. و10 بالمئة من اموال صيرفة هي خسائر يتكبدها من الاحتياطي، وهذا يعني أن سياسة المركزي عبر صيرفة هي كمن يعالج مريضاً على شفير الموت بالمسكنات، وشيئاً فشيئاً ستتعطل وظائف جسمه الحيوية، بسبب عدم معالجة المرض الاساسي».

تأجيل العملية الجراحية

ويؤكد أن «لبنان يحتاج الى عملية جراحية لاستئصال كل الاورام الموجودة في جسده، اي وضع خطة اصلاح مبنية على اساس تخفيض العجز في الميزان التجاري، وعندها يمكن تأمين استقرار الليرة مقابل الدولار. وهذه السياسة مطلوبة من الحكومة بالاتفاق مع وزارة المال والمصارف»، لافتاً الى أنه «بعدها يمكن اعادة هيكلة المصارف وتسديد اموال المودعين، لكن الاساس هو معالجة الخلل في ميزان المدفوعات، ففي العام الماضي تم هدر 3.2 مليارات دولار من الاحتياطي، وهذا العام نحن على نفس الطريق».

ويرى قزح أن «هذا الامر يمكن ان يتحقق من ثلاث خطوات ممكنة، اولها وضع رسوم على الكماليات على سعر منصة صيرفة ومضاعفة الجمارك عليها، وثانيها رفع الرسوم على العمالة الاجنبية لفتح المجال امام اليد العاملة اللبنانية (2 مليار دولار سنوياً تخرج من لبنان عبر العمالة الاجنبية)، وهذا يمكن ان يلغي العجز في ميزان المدفوعات». ويختم: «طالما أن نفس الاشخاص يستلمون الدفة الاقتصادية والمالية في لبنان لا أمل في التغيير. بقي من ولاية سلامة شهرين وسيعمد الى اتخاذ قرارات عشوائية كما يحصل اليوم، والحاكم الذي سيأتي بعده سيستلم كرة نار تقدر بـ70 مليار دولار خسائر».

إنها لخدمة مصالح

يحدد الباحث الاحصائي الدكتور عباس طفيلي نسبة الاستفادة من صيرفة من خلال قراءة المعطيات التي ترشح عن حاكم المركزي، ويقول لـ»نداء الوطن»: «عندما يعلن سلامة ان هناك 450 الف حساب تتحرك في القطاع المصرفي، هذا يعني ان 450 الف عائلة استفادت من صيرفة و لكن استبعد هذا الامر. لأن الواقع يظهر ان هناك محظيين يستفيدون من صيرفة، وعلى رأسهم كارتيل النفط. والمستفيد الثاني هم مدراء المصارف وكبار المودعين، والجهة الثالثة هم موظفو الدولة لكن صيرفة بالنسبة لهم حبة مسكن، كي لا يثوروا على الطبقة السياسية كون جزء كبير منهم من أتباعها».

يضيف: «هناك خدمات متبادلة بين حاكم المركزي والطبقة السياسية عبر صيرفة، وهم حريصون على بقائها لأنها تخدم مصالحهم بالرغم من أنها اثبتت عدم جدواها. والدليل أنه في المرة الاخيرة عندما بالغ الصرافون التابعون للقوى السياسية في التفلت من سيطرة المركزي والعمل لحسابهم الخاص ارتفع سعر الدولار الى 145 الف ليرة وتكبد المركزي خسائر. كان القرار بين سلامة والطبقة السياسية بضب هؤلاء الصرافين لابقاء سعر الدولار على حدود 100 الف ليرة، وهذا يعني انه قادر على الامساك بالسوق».

مزيد من طبع الليرة

يشرح الطفيلي أن «تأجير الحسابات لاستخدامها على منصة صيرفة يمكن أن يتم من خلال قيام المصارف باستعمال الحسابات النائمة وتحريكها، وبالتالي صيرفة هي رشوة يشرف عليها سلامة والقوى السياسية لارضاء جمهورها، وهدفها ضب الدولار من السوق على حساب الكتلة النقدية وزيادة طبع الليرة اللبنانية التي كانت 7 آلاف مليار ليرة قبل الازمة الى اكثر من 70 الف مليار حالياً»، مشدداً على أن «تمويل «صيرفة» هو لعبة محاسبية على حساب طبع الليرة اللبنانية، ففي العام 2022 بلغ التداول على صيرفة 12 مليار دولار، واستعمل المركزي 4 مليارات دولار تقريباً من الاحتياطي، ولكن في الوقت نفسه ارتفعت الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية بشكل كبير، وهذا يعني أن عمليات صيرفة تتم على حساب زيادة طبع الليرة».

لا حل إلا باستعادة الثقة

يشرح رئيس مركز الابحاث في بنك بيبلوس نسيب غبريل لـ»نداء الوطن» أن «هناك شحّاً في الدولار في الاقتصاد اللبناني بسبب الازمة، وهو نتيجة تراجع تدفق رؤوس الاموال والودائع الى لبنان، وهذا أدى الى ظهور سعر صرف مواز للسعر الرسمي للدولار في اواخر العام 2019، ولم يتخذ أي قرار لاعادة تدفق رؤوس الاموال والودائع الى لبنان. بل على العكس تم اتخاذ قرارات سيئة مثل قرار توقف تسديد سندات اليوروبوند، ولم يتم اقرار قانون الكابيتال كونترول في بداية الازمة، وهذا ادى الى تنامي السوق الموازي لسعر صرف الدولار والطلب على الدولار عبره بدلاً من المصارف الرسمية».

يضيف: «لذلك قرر مصرف لبنان انشاء منصة صيرفة، للتخفيف من تأثير سعر السوق الموازي على سعر صرف الدولار، كونه غير شفاف ولا يخضع للقوانين والرقابة ويحركه المضاربون وتجار الازمات والطلب عبر الحدود، واجبر المصارف والصرافين الكبار التسجيل في هذه المنصة»، مشدداً على أنها «محاولة لضبط سعر سوق صرف الدولار، لكن الحل يأتي عبر استعادة الثقة بالاقتصاد اللبناني وعودة تدفق رؤوس الاموال والاستغناء عن السوق الموازي، وأرقام العام 2022 تظهر ان التداول على منصة صيرفة 11 ملياراً و800 مليون دولار، وفي الاشهر الثلاثة الاولى في السنة الحالية ولغاية 21 نيسان المنصرم، بلغ حجم التداول 4 مليارات و 200 مليون دولار».

يعتبر غبريل أن «هذه الارقام تعني أن هناك اقبالاً على صيرفة، ومن خلالها تؤمن للناس والشركات ويعاد ضخ هذه الدولارات في السوق، مما ادى الى لجم تدهور سعر صرف الليرة بالسوق الموازي، والمستفيد هو الاقتصاد اللبناني (من خلال التعميم 161 وسحب القطاع العام لرواتبه على صيرفة)، والسماح للأفراد بشراء دولارات بسقف معين شهرياً و ايضاً للمؤسسات. هذا ادى الى لجم تدهور سعر صرف الليرة شئنا أم أبينا لأنه أدى الى ضخ دولارات في السوق»، لافتاً الى أن «مصرف لبنان يأخذ القرارات المتعلقة بفتح صيرفة للأفراد والمؤسسات بناء على نظرته هو، ولم يدّع أنها حل بل اجراءات مؤقتة وموضعية، لأن المركزي ليس وحده يمكنه اخراج الاقتصاد اللبناني من أزمته، بل هناك مسؤوليات للسلطتين التشريعية والتنفيذية، وهما مشلولتان بشكل كلي تقريباً والمركزي هي المؤسسة الوحيدة القادرة على اتخاذ القرارات في ظل الشلل المؤسساتي الحاصل وصيرفة هي اداته». يردف: «في العام 2022 كان حجم التداول 11 ملياراً و800 مليون دولار، في حين أن احتياطي المركزي من العملات الاجنبية انخفض مليارين و600 مليون دولار، وهذا يعني أن تمويل صيرفة ليس بكامله من الاحتياطي. وهذا العام ايضاً تراجع احتياطي المركزي 600 مليون دولار، في حين ان تمويل صيرفة بلغ نحو 4 مليارات دولار»، شارحاً أن «تمويل صيرفة يتم من خلال شرائه التحاويل بالدولار من الشركات المالية، ومن السوق ايضاً ويتم اعادة ضخها فيه، ومن يتلاعب بسعر صرف الدولار بالسوق هم المضاربون، وتجار الازمات والطلب عبر الحدود، والجهات التي ليس من مصلحتها انخفاض سعر الدولار في السوق الموازي».

ويختم: «هناك مجموعة مستفيدين من السوق الموازية، من خلال تحقيق ارباح سريعة من خلال المضاربة وتجار الازمات، وهناك جهات تغطي مصاريفها من خلال النشاط في السوق الموازية، بالاضافة الى ان حجم الاستيراد في العام 2022 بلغ 15 ملياراً و500 مليون دولار، فمن أين أتت هذه الكتلة النقدية لتمويل الاستيراد؟ من السوق الموازية لأننا نستورد لاقتصادين وليس لاقتصاد واحد».

مصدرنداء الوطن - باسمة عطوي
المادة السابقةأزمة لبنان الوحيدة في العالم التي سببها بنك مركزي
المقالة القادمةالتعليم في لبنان: الإنفاق يرتفع… والفعالية تتدنّى