نشر موقع البديل (الترناتيف) تقريراً عن “صيرفة” أكّد فيه أن منصّة صيرفة الإلكترونية تشكّل الوسيلة الأساسية التي يتدخل بها مصرف لبنان، في سوق العملات في البلاد، إذ عندما تنهار قيمة الليرة فإن صيرفة هي الطريقة التي ينقضّ بها مصرف لبنان لإنقاذ الموقف، ويضخّ بالسوق الدولار الأميركي لتثبيت سعر الصرف و”إنقاذ الشعب من المزيد من التضخم والمصاعب”. تلك هي الرواية التي يسردها البنك المركزي ويسعى الى أن نصدّقها وقد يكون من الصعب إثبات عدم صوابها وكشف حقيقتها في ظل الغموض الذي يعمل المركزي تحت غطائه حول كيفية استخدام منصة صيرفة، إلا أن المؤشرات المتاحة تشير إلى قصة مختلفة. فمنذ بداية عام 2022، أعلن مصرف لبنان عن عدة إعلانات تدخّلات في سوق العملات باستخدام صيرفة، كانت لها تأثيرات محدودة على سعر الصرف باستثناء آخرها في آذار 2023. وفي الواقع، يبدو أن أكبر وظيفة لصيرفة هي دعم البنوك والمستوردين والشركات والأثرياء، من خلال بيعهم الدولار بفرق كبير مقارنة بسعر الصرف في السوق الموازية ثم السماح لهم بجني الأرباح من المراجحة (arbitrage) ويبدو أن هذا الأمر يشكل حال معظم الأموال المتداولة على المنصّة. وجاء في التقرير أيضاً ما يلي:
التقرير: كيف يُغرق الليرة ثم يثبتها؟
مع انهيار قيمة الليرة منذ العام 2019 وما نتج عنه من انهيار الرواتب، حصل تفكك في شبكات المحسوبية التي كانت النخبة السياسية تحافظ عليها من خلال القطاع العام. وبينما يسمح مصرف لبنان لموظفي الخدمة المدنية بسحب رواتبهم بالدولار وفق سعر صيرفة، فهو يظهر أيضاً بدور الداعم لهؤلاء العمال الموظفين؛ إلّا أنه وفي حين أن المبالغ المتداولة لهذا الغرض على المنصّة هي جزئية بالنسبة إلى حجم الصفقات المالية الواسعة النطاق، إلّا أنها توفّر درجة ما من الراحة لموظفي الخدمة العامة، وقد تكون ساهمت في الحؤول دون اضطرابات أكبر من تلك التي تشهدها البلاد فعلياً، الأمر الذي يساعد النخب السياسية على الحفاظ على بعض شعبيتها بين دوائرها الانتخابية.
خلال شهري نيسان وأيار، استقرّ السعر الموازي لصرف الدولار مقابل الليرة بين 97,000 و94,000، ويشير ذلك ظاهرياً، الى أنها خطوة ناجحة من قبل مصرف لبنان للسيطرة على الليرة المتقلّبة. وجاءت هذه الفترة من الهدوء النسبي بعد أن أعلن البنك المركزي أنه سيبدأ بيع كمية غير محدودة من الدولارات لدعم الليرة بعد انخفاض حاد في قيمتها في آذار عندما وصل سعر صرف الدولار الى 141 ألف ليرة. عندها، ضخّ البنك المركزي باعتماد الطريقة ذاتها، الدولارات في الاقتصاد اللبناني، على الرغم من أن تدخّلاته السابقة في هذا السياق قد شهدت نجاحاً أقلّ نسبياً مقارنة مع أحدثها. وبالتالي، ينبغي اعتبار صيرفة “أداة نقدية ضعيفة وغير فعّالة”، كما أشار البنك الدولي في تقرير صدر مؤخراً، مع وجود ارتباط عام منخفض بين تدخّلات المركزي وسعر الصرف.
نسبة الأرباح للمحظوظين بمتوسط 21%
أنشأ البنك المركزي منصة الدفع الإلكتروني، صيرفة، داخلياً في العام 2020 ووسّع نطاقها بين شهري أيار وآب 2021، وألزم البنوك التجارية بإجراء معاملاتها بالعملات الأجنبية حصرياً على صيرفة. كما تم منح كبار الصرافين والمستوردين وغيرهم من العملاء ذوي الثروات العالية إمكانية الوصول الى المنصة وكذلك موظفي القطاع العام. وعلى الرغم من ذلك، لا تزال هوية الكيانات والأفراد الذين لديهم إمكانية الولوج الى المنصّة غير واضحة بسبب الغموض الذي يغلف به مصرف لبنان عمليات الصيرفة. وكان من بين أهداف تأسيس صيرفة، حصر تداول العملات على منصة رسمية واحدة وتنظيم السوق حيث كانت المضاربة والتلاعب المتفشيان فيه يحدثان تقلّبات حادة في أسعار الصرف. وأغرى المركزي اللاعبين التجاريين بالمشاركة في المنصة بأن عمد الى تحديد مستمرّ لسعر الصرف على صيرفة بفرق كبير مقارنة بالسوق الموازية ومبالغاً في قيمة الليرة، ليجعل المنصة السوق المفضلة لشراء الدولار الأميركي الرخيص، بمعدل خصم 21% في المتوسط تاريخياً. هذا التبادل التفضيلي يثني أي طرف، بخلاف مصرف لبنان، عن بيع الدولار على المنصة، وبالتالي كما يخلص البنك الدولي، يمكننا أن نفترض أن البنك المركزي هو البائع الوحيد للعملة الأجنبية على صيرفة.
طبع الليرة ثم إستخدامها للمضاربة
ومع ذلك، التزم مصرف لبنان الصمت بشأن مصدر حصوله على الدولارات التي يعرضها للبيع والتي يعتقد أنها مزيج من الدولارات التي اشتراها من السوق الموازية، واحتياطاته من النقد الأجنبي، مع حصة الأسد من الكوكتيل تأتي من الأولى. وللمثال على ذلك، آخر تدخّل للبنك المركزي وهو السادس منذ بداية العام 2022، الذي بدأه في 21 آذار 2023. وفي نيسان، بلغ إجمالي حجم الدولارات المتداولة عبر صيرفة 1.22 مليار دولار أميركي لكن في موازاة ذلك، انخفضت احتياطيات المركزي من النقد الأجنبي بمقدار 127 مليون دولار فقط، ما يطرح السؤال حول مصدر الـ1.09 مليار دولار الأخرى؟ فالليرة قد انهارت قبل تدخّل مصرف لبنان مباشرة، ويشير البنك الدولي إلى أن البنك المركزي نفسه هو المحرّك للسوق، حيث يستخدم الليرة التي يطبعها لشراء كميات ضخمة من الدولارات من السوق الموازية، وبالتالي خفض سعر صرف الليرة مؤقتاً. ويمكن ملاحظة ذلك في حجم الليرة المتداولة الذي ارتفع من 67 تريليون ليرة إلى 83 تريليوناً بين 15 كانون الأول و28 شباط، بزيادة قدرها 24 في المئة في ستة أسابيع فقط. وشهد تدخل المركزي الأخير عبر صيرفة، على بيع الدولارات مقابل الليرة بخسارة، لإعادة امتصاص العملة المحلية المطبوعة الزائدة من السوق ودفع الكتلة النقدية المتداولة بالليرة إلى الانخفاض بسرعة مرة أخرى إلى 67 تريليوناً بحلول نيسان. ووصف مسؤول كبير في أحد أكبر المصارف التجارية في لبنان، متحدثاً الى ALTERNATIVE (البديل) شرط عدم الكشف عن هويته، أنها ديناميكية يستخدم فيها مصرف لبنان في الواقع احتياطاته من النقد الأجنبي لتغطية الفرق بين سعر السوق السوداء وسعر بيع الدولار على منصة صيرفة.
إن هذه الدورة، التي يقوم بها مصرف لبنان بأن يشتري الدولارات من السوق ويبيعها بخسارة على صيرفة، غير مستدامة بطبيعتها. وتمثل صيرفة الوسيلة التي يحاول عبرها البنك المركزي والحكومة شراء الوقت ولكن بأموال الجميع، بينما يفشلون في معالجة القضايا النظامية الخطيرة التي أدّت إلى الأزمة المالية وزيادة إفقار الناس. إن منصة صيرفة ليست أداة غير فعّالة للسياسة النقدية فحسب، بل هي عملية نقل منسّقة أخرى للثروة من الخزانة العامة إلى النخبة، بينما تعمل أيضاً على الحفاظ على السلطة السائدة في البلد.
حصة الموظفين تكاد لا تذكر
وفقاً للبنك الدولي، حقّقت “صيرفة” منذ إنشائها أكثر من 2.5 مليار دولار من المراجحة (arbitrage) لأولئك المسموح لهم باستخدام المنصة، البنوك والمستوردين والشركات الكبرى، من بين آخرين. وهذا لا يشمل المبلغ الذي استفاد منه موظفو الخدمة المدنية من خلال تمكينهم من سحب رواتبهم بالدولار بسعر صيرفة. ويصعب تحديد مقدار استفادة موظفي الخدمة المدنية بالضبط، بالنظر إلى أن مختلف فروع الحكومة، والمستويات المختلفة من الموظفين داخل تلك الفروع، قادرة على سحب رواتبها بأسعار صرف مختلفة من صيرفة. ومع ذلك، وبالنظر إلى الأرقام التراكمية، فمن الواضح أن المبلغ الذي يمكن أن يستفيد منه موظفو الخدمة المدنية هو جزء بالنسبة إلى الحجم الإجمالي للمبيعات على منصة صيرفة. وعلى سبيل المثال، بلغ إجمالي أحجام التداول على منصة صيرفة لأشهر آذار ونيسان وأيار 1.1 مليار دولار و 1.22 مليار دولار و 2.41 مليار دولار على التوالي، وفقاً لمصرف لبنان. وفي الوقت نفسه، تراوحت تكاليف رواتب موظفي الخدمة المدنية لكل شهر من هذه الأشهر بين 33 مليون دولار و35 مليون دولار أميركي، بناء على ميزانية عام 2022 وزيادات رواتب القطاع العام منذ ذلك الحين، وذلك عند احتسابها بسعر السوق الموازية. وهذا يضع المبلغ الإجمالي الممكن للدولارات التي كان يمكن أن يشتريها الموظفون العموميون على صيرفة خلال هذه الفترة في حدود 2 إلى 3 في المئة.
وسيلة تستخدمها السلطة للإستقرار!
وبينما يعتبر هذا الدعم لموظفي القطاع العام ضئيلاً مقارنة بمدى استفادة تجار الأموال الكبار، إلّا أنه مهم بالنسبة إلى هياكل السلطة السائدة والاستقرار الاجتماعي. فقد شكل التضخم وانخفاض قيمة رواتب القطاع العام القائمة على الليرة، تهديداً مباشراً للطبقة السياسية ما قوّض شبكات المحسوبية الواسعة التي سعت الى التغلغل في جميع أنحاء الخدمة المدنية للحفاظ على سلطتها على مجتمعاتها الطائفية. وأقرّت الحكومة زيادة رواتب القطاع العام إثر الاضطرابات التي شهدتها الدولة من الإضرابات الجماعية في الخدمة المدنية للمطالبة بتحسين الأجور، وقد عطّلت الخدمات العامة لأكثر من عام، واحتجّ موظفو الخدمة المدنية المتقاعدون بانتظام خارج السراي الكبير من أجل زيادة المعاشات التقاعدية وترك حوالي 5000 من أفراد الجيش اللبناني الخدمة دون إذن منذ العام 2019. وأدت ميزانية 2022 التي تم تمريرها في أواخر العام الماضي، إلى مضاعفة دخل موظفي الحكومة على أساس الليرة ثلاث مرات تقريباً، تليها مكافأة مؤقتة أخرى صادرة بموجب مرسوم مجلس الوزراء في نيسان. وهذا يعادل أربعة أضعاف رواتب الموظفين مقارنة بـ1 كانون الأول 2020. وقد أدى ذلك إلى زيادة الإنفاق الحكومي الشهري على الرواتب من 1.1 تريليون ليرة لبنانية إلى 3.7-3.9 تريليونات ليرة لبنانية، أي ما يعادل ما بين 33 و35 مليون دولار شهرياً بسعر السوق الموازية البالغ 94 ألف ليرة لبنانية/دولار. إن القدرة على سحب الرواتب بالدولار بسعر صيرفة تدعم الرواتب الحكومية بشكل أكبر، ما يساعد على الحفاظ على العقد الاجتماعي القائم بين قادة الطوائف السياسية وناخبيهم. وبالتالي، تشكل صيرفة وسيلة أخرى دبّرتها النخبة اللبنانية لمواصلة سرقة الخزينة العامة مع إطعام السكان الفتات (الفول السوداني)!