«صيرفة» للمضاربات والتوزيع

في 10 أيار 2021، أصدر مصرف لبنان التعميم 157 الذي أنشأ منصّة «صيرفة» بالصيغة التي نعرفها اليوم. عنوان التعميم «إجراءات استثنائية حول العمليات على العملات الأجنبية»، وهو مبنيّ على مواد في قانون النقد والتسليف، ومبرّر بالآتي: «الظروف الاستثنائية الحالية التي يمرّ بها لبنان أثّرت بشكل كبير على سعر صرف العملات الأجنبية النقدية». أما المعطيات التي نشرها مصرف لبنان عن المنصّة، فهي تعود إلى مطلع تموز 2021 وتحدث يومياً، لتظهر أنه خلال نحو 18 شهراً، سجّلت على المنصّة عمليات إجمالية بقيمة 11.4 مليار دولار، وأن سعر الليرة عليها كان 12 ألف ليرة وارتفع إلى 30300 ليرة.

حاول مصرف لبنان الإيهام بأن هناك تماهياً بين سعر «صيرفة»، وسعر الدولار في السوق الحرّة، باعتبار أنه سيحافظ على هامش متوازن بينهما، تمهيداً لتوحيدهما. وفي هذه الفترة سجّل مرّة واحدة، انخفاض في سعر السوق إلى مستوى أقلّ من «صيرفة»، إلا أن الأمر لم يدم طويلاً. السبب يعود إلى انفصام تام، بين الأهداف الفعلية لوجود «صيرفة»، والمبرّرات التي أوجدتها. حتى إن خبراء ومتابعين جدّيين رأوا أنها بداية جيدة لتوحيد سعر الصرف، باعتبارها أداة للتدخل في السوق كان يفتقدها مصرف لبنان منذ انهيار المصارف. عبرها سيضخّ الدولار وسيمتصّه. لم تكن بالنسبة إليهم سجلّاً لحفظ العمليات، وإنما «رقعة» تستقطب الثقة بعمليات نقدية. لذا، كان إنشاء المنصّة مبرّراً في قانون النقد والتسليف؛ المادة 70 تتعلق بمهمة المصرف العامة وفي أولها «المحافظة على سلامة النقد اللبناني»، والمادة 74 التي تتيح لمصرف لبنان «استعمال الوسائل التي يرى أن من شأنها تأمين ثبات القطع، ومن أجل ذلك يمكنه خاصة أن يعمل في السوق بالاتفاق مع وزير المالية مشترياً أو بائعاً ذهباً أو عملات أجنبية…»، والمادة 83 التي تفرض فقرتها (ب) أن يكون هناك اتفاق بين مصرف لبنان ووزير المالية، وأخيراً المادة 174 التي تأتي تحت باب «التنظيم المصرفي» وتعطي المصرف المركزي صلاحية «إعطاء التوصيات واستخدام الوسائل التي من شأنها أن تؤمّن تسيير عمل مصرفي سليم. يمكن أن تكون هذه التوصيات والوسائل شاملة أو فردية. وللمصرف المركزي خاصة بعد استطلاع رأي جمعية مصارف لبنان أن يضع التنظيمات العامة الضرورية لتأمين حسن علاقة المصارف بمودعيها وعملائها. كما أن له أن يحدّد ويعدّل كلّما رأى ذلك ضرورياً، قواعد تسيير العمل التي على المصارف أن تتقيد بها حفاظاً على حالة سيولتها وملاءتها».

إذاً، «صيرفة» ليست من صنع الهواة، وأهدافها ليست عشوائية؛ هي مصمّمة لمواجهة ظروف استثنائية وتمكين مصرف لبنان من الحفاظ على استقرار الليرة، ومحاولة إعادة ثقة الزبائن إلى المصارف. فهل تحقق أيّ من ذلك؟
انعدام الشفافية على منصّة «صيرفة» وتماهيها مع أحداث سياسية خاصة بتكليف رئيس حكومة، أو بانتخابات نيابية أو ما شابه، هو أمر كافٍ للإشارة إلى أن الأهداف المرسومة قانوناً مختلفة عن الأهداف الحقيقية. فالمنصّة، تحوّلت على وقع التطورات السياسية إلى قناة شبه حصريّة لعمليات المضاربة، وكانت أسوأ بكثير، إذ إنها سرعان ما تحوّلت إلى قناة توزيع زبائنية. فالأموال التي دخلت إلى لبنان، سواء تلك الـ 5 مليارات دولار التي قال وزير المالية يوسف الخليل إنها تدفقت نحو لبنان في الصيف الماضي، أو التحويلات التي تدفقت في فترات أخرى، أو الأموال النقدية التي ليس لها سجل رسمي… القسم الأكبر من هذه العمليات جرى توجيهه نحو عمليات المضاربة على الليرة التي وثّقتها «صيرفة». وهذا يظهر بوضوح في التزامن بين ارتفاع سعر صيرفة، وزيادة حجم العمليات الجارية عليها، واتّساع الهامش مع سعر السوق الحرّة. «صيرفة» كانت أسوأ من أن تكون أداة «شراء وقت»، لأنها ساهمت في تعميق تعددية الأسعار، وفي توزيع المال المجاني خدمة لمشاريع سياسية ضيقة.

هناك قلّة استفادت من المضاربات على «صيرفة»، مقابل وفرة من الذين يظنون أنهم استفادوا. ففي وقت ما، كانت العمليات المنفّذة على «صيرفة» تطبيقاً للتعميم 161، مفتوحة السقف، أي أن شراء الدولار على المنصّة لم يكن له حدود. كان التجّار من صغارهم في السوبرماركت ومحطات الوقود ومديري المصارف وموظفيهم، إلى كبار المستوردين وأصحاب المصارف وكبار العملاء وغيرهم، يحملون مليارات الليرات يومياً إلى المصارف ويشترون بها دولارات من «صيرفة». يومياً، كانوا ينفّذون عمليات تحقّق لهم أرباحاً، كالماضي، سهلة وسريعة وكبيرة. وفي المقابل، كان موظفو القطاع العام يصطفّون على أبواب المصارف لسحب رواتبهم الضئيلة، إلى أن قرّر «النظام» مكافأتهم بالسماح لهم بشراء الدولارات، بقيمة رواتبهم، عبر «صيرفة». كانوا يحقّقون أرباحاً بقيمة تتراوح بين 20 دولاراً شهرياً ولا تصل إلى 50 دولاراً. هذا الربح، كان يفقد قيمته عند ارتفاع الأسعار بعد مرور نحو شهر. كل فرد لديه حساب، بات اليوم يحصل على 400 دولار حدّاً أقصى للسحب من «صيرفة». أما أولئك الذين اشتروا المليارات حين كان السقف مفتوحاً، فقد حملوا أرباحهم الطائلة وانصرفوا إلى نشاطهم الاستهلاكي.

مصدرجريدة الأخبار
المادة السابقةهذا ما يجري في الصيدليات..
المقالة القادمةمصارف لبنان الأسوأ في إدارة المخاطر