ليس صحيحاً أن المصارف اللبنانية بريئة من الخطايا التي ارتكبت بحق المودعين وعموم الشعب اللبناني، وأدت الى خسارة أموالهم وجنى أعمارهم. العارفون في بديهيات عمل القطاع المصرفي يجزمون بأن المصارف مسؤولة عن الازمة بالمقدار نفسه الذي تتحمل فيه المنظومة المسؤولية، لأنهم ببساطة كانوا شركاء في كل التفاصيل. حالياً هناك توجيه اعلامي ممنهج للقول بأن العلاقة تنحصر بين المودع والدولة في ما يتعلق بإعادة الاموال، وهذا خطأ جسيم (بحسب الخبراء القانونيين) لأن الودائع هي ملك خاص للمودع لدى المصرف «المؤسسة الخاصة». كما أن المودع لم يتنازل عن العقد الموقع بينه وبين المصرف لصالح الدولة، وهذه الاخيرة لم تؤمم المصارف، وتبقى علاقة المودع محصورة بالمصرف التجاري دون سواه.
ومن المفيد من الناحية القانونية التذكير بأن المصرف المركزي والدولة يُعتبران طرفاً ثالثاً وغريباً عن عقد الوديعة ولا يحق لهما المس بمندرجاته، كما ولا يصح لهما قانوناً إلغاء الدين المتوجب سنداً لقانون الموجبات والعقود، وإلاّ فإن الأمر يرتب مسؤولية شخصية ومسؤولية الدولة عن أعمالها التشريعية.
في ظل منهجية الضخ الإعلامي الموجه من قبل المصارف والمنظومة، لإقناع الجميع بسردية تُبرئ المصارف وتضع المسؤولية على عاتق الدولة بأنها هي المسؤول الوحيد عن الازمة. استطلعت «نداء الوطن» رأي المحامي الدكتور باسكال فؤاد ضاهر (والناشط في الدفاع عن حقوق المودعين لا سيما في قصر العدل) الذي شرح ما للمصارف وما عليها من مسؤولية تجاه المودع بحسب القوانين المرعية.
مخالفة قانون النقد والتسليف
يؤكد ضاهر أنه «تندرج المخالفة الاساسية المرتكبة من المصارف والذي أسس للأزمة الراهنة، ضمن عنوان عريض يتفرع الى 3 اقسام، مثلما هنالك انحرافات ارتكبت من قبلها بعد وقوع الأزمة ادت الى تفاقم الوضع المالي في البلاد. العنوان العريض هو مخالفة المصارف أحكام المادة 121 من قانون النقد والتسليف التي فرضت عليها نطاق عمل واضح كمصرف تجاري، وهو «ان تستعمل الاموال التي تتلقاها من الجمهور في عمليات تسليف»، بما معناه ان القانون فرض عليها ان تقوم بعمليات التسليف التجاري للاقتصاد، وليس الاستثماري الذي يبقى بحكم القانون الرقم 67/22ً موضوع خاص لمصارف الاعمال»، شارحاً أن «هذه المخالفة المتناقضة مع مبدأ منع استثمار المصارف في المخاطر وفق قواعد بازل، لم تكن لترتكب الا من خلال انحرافات ارتكبها المصرف المركزي، من أجل استقطاب الودائع الدولارية من المصارف التجارية، بهدف منحها (خلافاً لاحكام قانون النقد والتسليف) لسلطة فاسدة اهدرتها. وقد حصل ذلك من خلال تعاميم صدرت خلافاً للقانون وخلقت آلية مغرية للمصارف، بأن تخالف القانون برضاها وتنقل الدولارات الى حاضنة المركزي. وممكن حصر هذه التعاميم بتلك المتصلة: بشهادات الايداع وبالتوظيفات الالزامية وبالهندسات المالية».
فوائد فاحشة أسالت لعاب البنوك
يشير ضاهر الى أن «هذه الاجراءات كانت جميعها تنتج فوائد مغرية وفاحشة للمصارف التجارية، وكانت توزعها تباعاً كأرباح على المساهمين فيها»، ويلفت الى أن «سردية القطاع المصرفي والتي تحاول تعميمها، وتزعم بأنها كانت ملزمة بإيداع الاموال لدى المصرف المركزي، وتستشهد بالتعميم 62 الصادر عن المركزي تاريخ 15/4/1999»، جازماً بأن»هذا التعميم الذي بات يستعمل كشماعة، لم يُلزم المصرف المركزي بموجبه المصارف بتوظيف أموالها لديه، بل منعها من توظيف أو إيداع أموالها إلّا في مصارف خارجية مصنّفة من درجة إئتمانية BBB، وهنا تقتضي الإشارة إلى أنّ هذا التصنيف أقلّ مخاطرة من التصنيف الذي كان محدداً للبنان، بموجب وكالة فيتش في العام عينه اي العام 2000 عند BB، علماً أنّ هذا التصنيف قد تدنّى أيضاً في السنوات التالية»، ويشير الى أنّ «المخاطرة صارت أعلى لاحقاً وقد قَبِلَت بها المصارف، أي أنّه لو كانت تسعى إلى التقيّد بالإمتناع عن المخاطرة، لكانت قد أودعت الاموال التي تلقتها من الجمهور وفق أحكام هذا التعميم لدى تلك المصارف المصنّفة BBB، أي الأعلى من تصنيف لبنان إنّما أقلّ ربحية». ويرى أن «المصارف إختارت بمحض إرادتها الخروج عن أحكام المادة 121 نقد وتسليف اضافة الى الدخول بالمخاطرة الأعلى في لبنان، وبالتالي فإنّ هذا التعميم يُدين المصارف ويُثبت بأنها كانت تسعى إلى المرابحة دون أن تأخذ بعين الإعتبار عامل المخاطر التي تدخل بها، لا سيما وأنّه لم يكن من العسير عليها أن توزّع توظيفاتها وفق أحكام التعميم بين عددٍ من المصارف المراسلة كلّ منها بنسبة لا تتعدى الـ25 بالمئة من أموالها الخاصة».
أين السيولة؟
يضيف: «التعميم الثاني الذي تستند اليه المصارف لتثبيت سرديتها هو الرقم 72 تاريخ 2000 /10/ 18، وبالعودة اليه يتضح بأنه متّصل بإلزام المصارف بأن تبقي لديها، وليس في مصرف لبنان نسبة سيولة 10 بالمئة على جميع أنواع الودائع بهدف تلبية الطلبات المتصلة بالودائع ذات استحقاق سنة أو أقلّ، لأنه من المعروف بأن الإستثمار الخارجي يكون بطبيعته أعلى من مدة سنة. وبالتالي فإن هذا التعميم بطبيعته يرمي إلى حماية المصارف من إنكشافها بأن تحتفظ بنسبة 10بالمئة تحت يدها، وهذا التعميم أيضاً يشكّل حجّة على المصارف»، معتبراً أن «كل ذلك يؤكد ان رياض سلامة الحاكم السابق قد نجح بالاستثمار في اطماع ارباب المصارف، وأن التعاميم التي أسست للأزمة لم تطعن بها المصارف أمام القضاء المختص تمهيداً لوقف تنفيذها وابطالها، بل قبلت بها وبالمخاطر التي تحتويها. وهذا أمر جداً مهم يقتضي الوقوف امامه، لتحديد القواعد القانونية الواجبة، مع العلم ان كل ذلك قد حصل تحت أعين هيئات الرقابة كافة التابعة للمصرف المركزي».
إرتكابات ما بعد الأزمة
يشرح ضاهر أيضاً «الانحرافات التي ارتبكت بعد وقوع الازمة وأدّت الى تفاقم الوضع مثل تهريب الاموال من البلد. وإتباع تعاميم غير مشروعة 151 و 158 أدت الى ليلرة الودائع مع تضمنيها هيركات مرتفع وتعدد اسعار الصرف. مع الإشارة هنا الى أن هذا الهيركات الثقيل وغير المقبول، تحمّله المودع منفردا والذي لا ناقة له ولا جمل، ولم تتأثر به الأرباح والفوائد التي استحصلت عليها المصارف منذ العام 93 حتى يومنا هذا. وفي ذلك اشارة واضحة الى الخروقات والمخالفات وتعمد ارتكاب جرم الخيانة العظمى من خلال ضرب الثقة الائتمانية في البلاد، ومع التأكيد هنا بان أخطر تلك التعاميم على الإطلاق هو الرقم 165 الذي صدر منتصف العام المنصرم».
هل من حلول؟
في البحث عن حلول مقابل هذه المسؤوليات، يطرح ضاهر حلّين لإعادة أموال المودعين، الاول تطبيق القوانين كما فعلت ايسلندا، من ناحية القضاء وإطلاق الملاحقات وإعادة ما نهب وهرب وضبط المشاريع الفاسدة، ورد الاموال المنهوبة وتشكيل لجان تحقيق من قبل المجلس النيابي، تمهيداً لرد كل فلس فاسد واعادته الى اصحابه الشرعيين»، مشيراً الى أن «الحل الثاني المنتج وعلى الأسلوب اللبناني كوننا نعيش في دولة اللاقانون وهو أن تعترف الدولة بالديون وتأخذ فترة سماح مؤقت. في الوقت عينه يتم فصل ادارة الاصول العامة عن المحسوبيات السياسية وإنشاء هيئة مؤلفة من 3 أعضاء يتمتعون بسيرة توحي بالثقة والاحترام، تُعنى بإدارة أصول المرافق المنتجة على أن تتمتع بصلاحيات واسعة وعلى أن تودع الايرادات لمصلحة الحكومة في حساب شفاف للعامة».
ويختم: «ينتج عن ذلك وفر مالي يمكّن الدولة من سداد متوجباتها للدائنين. كل ذلك ضمن قاعدة عدم تحميل المودع مسؤولية أي استثمارات قامت بها المصارف».