خريطة طريق قانونية-إقتصادية، ودعوة لعقد إتفاق طائف إقتصادي جديد يُخرج اللبنانيين من الأزمة، هي بعض من خلاصات الورقة التي قدمها الأستاذ المُحاضر في قانون الضرائب والمالية العامة، الدكتور كريم ضاهر في ندوة «المأزق الإقتصادي والمالي: المخارج الممكنة»، ضمن فعاليات المهرجان اللبناني للكتاب (الحركة الثقافية – أنطلياس).
لا يراهن ضاهر على تجاوب المنظومة السياسية مع ورقته، فهو غير معني بذلك، كما يؤكد لـ»نداء الوطن»، بل «تأتي إنسجاماً مع رؤية ليبرالية-إجتماعية يؤمن بها، ويتخذها مُنطلقاً لبلورة طروحاته، ومحاولة لإحراج السياسيين، والتضييق عليهم أكثر أمام الشعب اللبناني، لكشف تلكؤهم في تحمل مسؤولياتهم وتكبّرهم وجبروتهم، الذي منع الخروج من الأزمة بعد أكثر من ثلاث سنوات على إندلاعها».
تشريح أسباب الأزمة
في البداية شرّح ضاهر وقال: «على اللبنانيين أن يخرجوا من حالة النكران، التي يعيشون فيها بسبب وعود السياسيين الفارغة. عليهم أن يقبلوا الالم كطريق للشفاء بعيداً من سطوة بعض الاعلام المرتشي»، مُعدداً أسباب «الانهيار الذي حصل بأنه إعتماد إقتصاد ريعي على مدى السنين، ودعم غير مبرر للعملة الوطنية، وتمويل الإستهلاك العام والخاص بواسطة الإستدانة والتحويلات، والإحتكار في شتى الميادين، وخلل في البنية الإقتصادية وغياب لأي رؤية أو خطة إجتماعية أو تنموية تُساعد على تحسين أوضاع اللبنانيين، وتنوّع مصادر تمويل الدخل القومي وولوج درب الإنماء المتوازن والمستدام، وإستعمال أموال الدين العام في تمويل الرواتب والمشاريع غير المنتجة». يوضح ضاهر أنه «في بداية الازمة في 2019، حصلت أزمة سيولة حادّة تحوّلت إلى حالة هلع في 17 تشرين الأول، وتخلف عن تنفيذ التعليمات والطلبات، ومنها وضع قيود غير قانونية على السحوبات والتحاويل، وصولاً إلى الإمتناع عن تسديد المستحقات والودائع في العملة المحددة أساساً للحساب»، لافتاً إلى أن «ما حصل أدى إلى عدم ملاءة مالية، إستُتبعت بالتخلّف عن سداد الدين والإفلاس غير المعلن والمموّه. علماً أن ميزانيات المصارف مثقلة بديون مشكوك بها، أو من إمكانية تحصيلها إن لم نقل ديوناً بغيضة».
شروط لا بد منها
يعرض ضاهر في ورقته تجارب أربعة بلدان مرت بأزمة مشابهة لأزمتنا، منها من إستطاع النفاذ من الازمة مثل قبرص وأيسلندا، وبلدان أخرى لا تزال تتخبط فيها مثل اليونان والارجنتين، مُسجلاً أن «المصرفيين في لبنان هم كالسياسيين، يُحاربون كي لا يُفتح باب المحاسبة والاصلاح»، ويؤكد أن «الخروج من الازمة في لبنان ممكن والخلاص من الدوامة التي نحن فيها، شرط تطبيق 4 خطوات هي رفع السرية المصرفية بالكامل، التدقيق في كل الحسابات المصرفية لتحديد الودائع المؤهلة للحماية والإسترداد بُعيد تطبيق خطّة إعادة هيكلة القطاع المصرفي، الإنتهاء من التدقيق الجنائي في حسابات المصرف المركزي والمصارف التجارية لتحديد المسؤوليّات وكشف الجرائم المالية وغير المالية، وحوكمة جديدة للقطاع المالي مع تعيين هيئة مصرفية مستقلّة لقيادة خطّة إعادة هيكلة المصارف، بعد إخضاع حاكمية المصرف المركزي، ولجنة الرقابة على المصارف واللجان والهيئات الأخرى الناظمة والمراقبة للمحاسبة عن التقصير في دورها الرقابي والتنظيمي والعقابي». ويشدد على «ضرورة تغيير إدارات المصارف الحالية، والحجز على أصولها وتجميدها بإنتظار إقرار خطّة إعادة الهيكلة، وذلك وفقاً لأحكام القانون رقم 2/1967، نظراً لكونها في حالة تخلّف عن السداد، والإسراع بإقرار إقتراحيّ قانون إستقلالية القضاء العدلي، والقضاء الإداري على نحو يضمن استقلالية فعلية للهيئات القضائية وفق المعايير الدولية، حيث لا محاسبة ولا مكافحة للفساد من دون قضاء مستقل».
إجراءات قانونية
بالنسبة للإجراءات القانونية والتشريعية، يرى ضاهر أنه «يجب إعادة وصل ما انقطع مع صندوق النقد الدولي والدول الصديقة، من خلال إستكمال تنفيذ الشروط التي حددها الإتفاق الأولي على مستوى الموظفين، ومن ضمنها إقرار قانوني الكابيتال كونترول وإعادة هيكلة وتنظيم القطاع المصرفي مع إعادة التوازن للنظام المالي»، مشدداً على أنه «تجنباً للتسويف الحاصل، من المجدي البحث في إقتراحين بديلين مُعدين من قبل نقابة المحامين في بيروت، ومُقدمين إلى أمانة سرّ المجلس بصفة المعجل المكرر من قبل بعض النواب التغييريين». ويوضح أن «الاقتراح الاول يتعلق بقانون بديل للكابيتال كونترول المطروح أمام اللجان المشتركة، والثاني لإعادة هيكلة وتنظيم القطاع المصرفي، وكلاهما يرتكزان على دراسات مقارنة، مع حالات مشابهة في العالم وحلول ناجعة، مع الأخذ بالخصوصية اللبنانية كما وبالمبادئ الدستورية»، مؤكداً «أنهما يحميان المودعين والمواطنين من التحايل، الذي يحاول المسؤولون وشركاؤهم تمريره لإعفاء أنفسهم وشركائهم من مسؤولية افلاس الشعب وتدمير الإقتصاد».
سبل المعالجة النظامية
بعد تشريح أسباب المشكلة وكيفية محاصرتها، ينتقل ضاهر في ورقته إلى تحديد سُبل المعالجة والإصلاحات المرجوة على المدى المتوسط والمنظور، على إعتبار أن مشكلة نظامية تستلزم حلولاً نظاميةً. فعلى الصعيد البنيوي يقترح عدة خطوات، «أولها فصل السياسة عن الإقتصاد، وتعيين حكومة مهمة حيادية مؤلفة من أصحاب الكفاءات، مع التفويض الكامل في الموضوعين الإقتصادي والإجتماعي (مراسيم تشريعية)، للسير في الإصلاحات بالتنسيق مع صندوق النقد الدولي».
يضيف: «الخطوة الثانية هي إصلاح القطاع المصرفي، كي يلعب دوراً جديداً يستعيد معه الثقة في الداخل والخارج، من خلال إعادة الهيكلة وتنويع النشاطات والإستثمارات، مع السعي لدخول مصارف جديدة أجنبية لتبعث الثقة. أما الخطوة الثالثة فهي إلتزام الدولة الصريح والنهائي، عملاً بالفقرة (و) من مقدمة الدستور والمادة 15 منه كما والفقرة (ج) والمادة 7، بضمان الودائع المشروعة وتأمين إعادة تسديدها تدريجياً وفقاً لما تسمح به الظروف والإمكانيات، مع إجراءات ملازمة مثل قروض ميسرة لفترات طويلة بضمانة الدولة، وإيجارات لمشاريع ذات قيمة مضافة ومنتجة، وسندات قابلة للتداول بمثابة إئتمان ضريبي، لتنزيل ضرائب مستحقة وفرض ضرائب ذكية ومحددة الأهداف، تُضفي بعض العدالة والمساواة والتضامن الإجتماعي». يقترح ضاهر، كخطوة رابعة، «الشروع في عملية إصلاح هيكلي شامل للنظام المؤسساتي القائم برمته، من خلال أنظمة حديثة قوامها الشفافية والحوكمة الرشيدة، والحكومة الرقمية والمحاسبة والفعالية على أساس الكفاءة»، معدداً الخطوات اللاحقة بأنها «الإنتقال من موازنة البنود إلى موازنة المهام/البرامج والأداء،عن طريق إعتماد القانون التنظيمي، وتكريس مبدأ الصدقية وحسن الإداء والمحاسبة على النتيجة، وإصلاح شامل للقطاع العام مع معالجة مواضيع الهدر والمخالفات في التوظيف، ونقل الفوائض من وزارات وإدارات لملء الشواغر وتحسين الأداء، وإعادة التأهيل عن طريق وزارة التنمية الإدارية، وفرض العقوبات على المخالفين بصورة عادلة وجدية ومحاسبة دورية».
رؤية محورها المواطن
ويُشدد على أن «المطلوب هو عقد طائف إقتصادي، حيث يتم تصحيح الخلل البنيوي، وتحديد رؤية مشتركة وجامعة توصل إلى تحديد هوية إقتصادية للدولة اللبنانية، وتحديد القطاعات الواعدة أو التي يملك لبنان فيها قيمة مضافة او تفضيلية مع الإنطلاق من خطة McKinsey، على أن يتبعها عقد إجتماعي جديد منبثق عن حوار بين كل مكونات الإقتصاد اللبناني (كتل نيابية نقابات وهيئات أكثر تمثيلاً ومجتمع مدني)، لوضع رؤية جديدة محورها المواطن، وإعادة توزيع الثروة بصورة عادلة ومحقة ومنطقية دون المساس بالمبادرة الفردية والعناصر الجاذبة للإستثمار».
حوافز لإقتصاد جديد جاذب للإستثمارات
على صعيد البيئة الإستثمارية، يرى كريم ضاهر «ضرورة تحفيز مناخ الأعمال والإستثمارات، عبر تعريف المستثمرين اللبنانيين والأجانب، المقيمين وغير المقيمين على الحوافز الموجودة راهناً في القوانين والأنظمة المرعية الإجراء، ونفض الغبار عنها لإستعمالها بصورة ناجعة، وتطبيق القوانين الحالية وسن قوانين جديدة حيث تدعو الحاجة، لكي تتلاءم مع التطورات الإقتصادية والتكنولوجية الحاضرة، وإعتماد سياسات ضريبية تتلاءم مع هذه الظروف والمناخات».
كما يدعو إلى»دعم مالي وضريبي لقطاعات واعدة، لا سيما عن طريق الحوافز الضريبية للممولين وللمستثمرين، والمساعدة على أن يصبح لبنان منصة إقليمية للمستثمرين والمنتوجات التكنولوجية، ومركزاً حاضناً للشركات الأجنبية، ووضع خطة واضحة وشفافة ومبرمجة لمشاريع البنى التحتية والمواصلات والإتصالات والكهرباء والري»، مشدداً على «ضرورة وضع قانون مكافحة الإحتكار موضع التنفيذ لتحفيز المنافسة المفيدة بالنوعية والأسعار، وتخفيض كلفة الإنتاج والشروع في سياسة داعمة لإنتاج منتجات متطورة في المجالات التي يتمتع بها لبنان بميزة مقارنة، وتسهيل المعاملات الإدارية وتسريعها للسماح للمستثمر بالحصول على الخدمة بأسرع وقت، وتأمين الإستقرار التشريعي والأمان القضائي، وسرعة صدور الأحكام الحيادية والعادلة».
يشدد ضاهر أيضاً على «تفعيل التعاون بين الإدارة الضريبية والمستثمرين ولا سيما الأجانب، وإدخال، ضمن المنظومة التشريعية اللبنانية، مبدأ التكليف التعاقدي الذي يحدد مسبقاً أصول التكليف بالنسبة لحالات خاصة يتم عرضها قبل المباشرة بتنفيذها»، لافتاً إلى «ضرورة إلغاء المعوقات التي تعترض إستثمار الأجانب، وتفعيل قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وإقرار قانون خاص للمستثمر يُساعد على جذب الإستثمارات الأجنبية والإغترابية، وتفعيل القانون رقم 664 تاريخ 4/2/2005 (وسيط الجمهورية) لتسهيل الإجراءات وحلّ الخلافات».
ويختم: «يجب إعطاء الأولوية إلى القطاعات الحيوية المحفزة للإستثمار، وضخّ السيولة المتوفرة لدى المصارف، ومنح إعفاءات مؤقتة وخاصة لتشجيع بعض المشاريع الحيوية، التي تساعد على النمو والتوظيف وتنمية المناطق».
زيادة الإيرادات الضريبية
على صعيد القوانين، يُحدد كريم ضاهر الخطوات الواجب إتخاذها «بإقرار المراسيم والقرارات التنظيمية لقانون المشتريات العامة الحديث، وقانون اللامركزية المالية والإدارية الموسعة، وتدابير تحفيزية للإستثمار في المناطق الريفية البعيدة لتأمين التوازن»، لافتاً إلى ضرورة «وضع زيادة مدروسة للواردات، من خلال تفعيل الإلتزام الضريبي ومكافحة التهرب والتهريب، وتطبيق الضريبة الموحدة على الدخل بشطورها التصاعدية، على مجمل الدخل من أي مصدر، محلياً كان أم خارجياً، مع تدابير أخرى مُتاحة مُلازمة لا تُثقل كاهل المكلفين، ولا تضرّ بالإقتصاد ومنها على سبيل الذكر لا الحصر، وضع قوانين مكافحة الفساد موضع التنفيذ، وتفعيل التدقيق والإستقصاء بمعاونة الأجهزة القضائية والإدارية، بهدف إعتماد الآليات الواجب إتباعها من أجل استرداد الأموال المنهوبة أو غير الشرعية، وتعميم الرقم الضريبي الموحد لجميع المواطنين والمقيمين الأجانب على الأرض اللبنانية، ووضع الخوارزميات وآليات الحوسبة عن بُعد لمعالجة البيانات الحسابيّة للمكلّفين من خلال واجهات الكترونيّة تسمح بكشف الثغرات وملاحقة المتهرّبين».
ويدعو أيضاً إلى «تفعيل إجراءات تطبيق القانون رقم 55 تاريخ 27/10/2011، لتبادل المعلومات الضريبية بشكل يتلاءم مع ما هو مطلوب، من قبل المنتدى العالمي وفي المعاهدة المتعددة الأطراف (MAC)، بحيث تقوم الدولة ممثلة بوزارة المالية، من جهة، بطلب التبادل غب الطلب بالنسبة للحالات المشبوهة أو المشكوك فيها، ومن جهة ثانية تطبيق ما تبقى من شروط وإلتزامات، ليتسنى لها تلقي المعلومات العائدة إلى المقيمين في لبنان عن طريق التبادل التلقائي للمعلومات (CRS)».