يوم صدر قانون الموارد البتروليّة في المياه البحريّة سنة 2010، نصّت المادّة السادسة من القانون على احتفاظ الدولة بحق القيام أو المشاركة في الأنشطة البتروليّة، كما نصّ على إمكانيّة تحديد هذه الحصّة بموجب مرسوم في مجلس الوزراء. ولهذه الغاية، نصّت المادّة نفسها على تأسيس شركة بترول وطنيّة، بموجب مرسوم صادر عن مجلس الوزراء أيضًا، بعد التحقق من وجود فرص تجاريّة واعدة. وعلى هذا الأساس، كان من المتفرض أن تعمل الدولة -حسب هذا القانون- وفقًا لنموذج تقاسم الإنتاج، الذي يسمح للدولة بمشاركة الشركات الأجنبيّة ملكيّة الرخص البتروليّة، من خلال شركة وطنيّة، ولو من دون تكبّد عناء الأنشطة التشغيليّة المباشرة، التي تبقى من مهام الشركات الأجنبيّة المشغّلة.
مراسيم العام 2013
لاحقًا، جاءت مراسيم العام 2013 لتضع جانبًا هذا النموذج بأسره، ولتعمل وفق نموذج لزّم الرخص البتروليّة في البلوكين 4 و9 لكونسورتيوم من ثلاث شركات أجنبيّة، من دون أي مشاركة للدولة. ومع ذلك، شاءت الأقدار أن تستعيد الدولة حصّة من هذه الرخص، بنسبة 20% في البلوكين، بعدما انسحبت شركة نوفاتيك الروسيّة من الكونسورتيوم، بفعل العقوبات الدوليّة المفروضة عليها، ما أحال حصّتها إلى الدولة كما تنص العقود. وهكذا، باتت الدولة شريكاً غير مشغّل في البلوكين، من دون أن تمتلك شركة بتروليّة تمثّلها في هذه الشراكة.
وفي جميع الحالات، سواء قررت الدولة الاحتفاظ بهذه النسبة، أو التفاوض لبيعها، بات هناك ما يكفي من أسباب لإعادة تحريك ملف شركة البترول الوطنيّة، حتّى لو لم تخطط الدولة لتمليكها حصّتها في البلوكين 4 و9، وحتّى لو قررت الدولة بيع هذه الحصّة لجهات أجنبيّة. مع الإشارة إلى أنّ هناك خيارات عديدة بالنسبة إلى شكل وهيكليّة ودور هذه الشركة، بخلاف النظرة السائدة التي تفترض أن الهدف الوحيد لهذا النوع من الشركات هو تملّك حصص من رخص الاستكشاف والتنقيب والاستخراج.
أدوار شركة البترول الوطنيّة
من الناحية العمليّة، بإمكان شركة البترول الوطنيّة أن تكون أداة تسمح للدولة بتملّك حصّة من رخص التنقيب والاستخراج في البلوكين 4 و9 على المدى البعيد، كما بإمكانها أن تكون أداة لتملّك حصّة في رخص البلوكات الأخرى في حال قررت الدولة بيع حصّة 20% التي تملكها اليوم في البلوكين. وفي هذه الحالة، ستسمح هذه المشاركة للدولة بتحقيق العديد من الأهداف، كفرض رقابة وسيطرة أقوى على الأنشطة البتروليّة في البلوكين، وتطوير خبرة محليّة تسمح بتطوير مساهمة الدولة في هذا القطاع، بالإضافة إلى تعميق فهم الدولة لداتا حقول الغاز الموجودة في البلوكات البحريّة. وهذا تحديدًا ما سيسمح لاحقًا للدولة بمفاوضة الشركات المشغّلة في ما يخص القرارات الاستثماريّة، بل وحتّى مشاركتها في اتخاذ هذه القرارات.
مع الإشارة إلى أنّ الدولة لن تحتاج إلى تطوير القدرات التشغيليّة للشركة الوطنيّة في المرحلة الأولى، طالما أن هذه الشركة لا تمتلك أساسًا أي حقوق كشريك مشغّل في الكونسورتيوم الذي يملك رخص التنقيب والاستخراج.
لكنّ المساهمة والمشاركة في رخص التنقيب والاستخراج لا تمثّل أهم ما يمكن أن تقوم به الشركة الوطنيّة. فالأنشطة البتروليّة التي يتحدّث عنها القانون تشمل مهام عديدة خارج نطاق عمل الشركات التي تملك الرخص، كأنشطة النقل والتخزين والتكرير والمعالجة وربما تسييل الغاز والبيع والصيانة والخدمات المكمّلة لعمليّات الاستخراج. بصورة أوضح، ثمّة مروحة واسعة من الأنشطة التي تملك هوامش ربح مرتفعة، والتي يمكن أن يتم ربطها بنطاق عمل الشركة الوطنيّة للإستفادة من مردودها. مع الإشارة إلى أنّ الشركة الوطنيّة لا تحتاج هنا أيضًا للاضطلاع بمهام تشغيليّة مباشرة، بل بإمكانها مشاركة هذه الأنشطة مع شركات أجنبيّة تمتلك الخبرة والإمكانات اللوجستيّة.
أمّا الهدف من الاستحواذ على جميع هذه الأنشطة تحت مظلّة الشركة الوطنيّة، ولو بالشراكة مع شركات مشغّلة أجنبيّة، فهو مرّة أخرى تكوين الخبرة والفهم التقني محليًّا لكل ما يتعلّق بأنشطة القطاع، تمهيدًا لاضطلاع الاقتصاد المحلّي بأدوار أوسع في هذا المجال في مرحلة لاحقة. كما ستسمح سيطرة الدولة المباشرة على هذه الأنشطة بتوجيه مردود الخدمات التي تواكب الأنشطة البتروليّة، بما يخدم الاقتصاد المحلّي وقطاعاته المنتجة. ومع الوقت، سيكون بإمكان الدولة توسيع نطاق عمل الشركة الوطنيّة تدرجيًّا، بل وحتّى مشاركة القطاع الخاص المحلّي في أسهم هذه الشركة، لزيادة الشفافيّة في عملها.
أمّا أهم ما في الموضوع، فهو أن وضع اليد على هذه الأنشطة المكمّلة من قبل شركة وطنيّة عامّة، سيحول دون السمسرة التي يمكن أن تقوم بها الأطراف المحليّة للعب هذا الدور بالنيابة عن الدولة، وهي محاولات بدأت أساسًا منذ مدّة. ومن المعلوم أنّ رائحة هذا النوع من الفضائح فاحت أساسًا في مراحل سابقة، حين تم تلزيم عمليّة تنفيذ المسوحات البحريّة إلى جهات محليّة، قامت بدورها باستقدام شركات أجنبيّة للقيام بهذا الدور، ما ورّط المسار بأسره في عمليّة سمسرة ووساطة غير مبررة.
الأرقام تعكس أهميّة شركات البترول الوطنيّة
في النصف الأوّل من القرن الماضي، اعتمدت الغالبيّة الساحقة من الدول البتروليّة على نموذج الامتيازات، الشبيه بالنموذج الذي اعتمده لبنان خلال السنوات الماضية، والذي نصّ على منح حق التنقيب والاستخراج للشركات الأجنبيّة من دون أي دور أو مشاركة من جانب الدولة. مع الوقت، انتقلت الغالبيّة الساحقة من الدول النفطيّة، وبشكل تدريجي، إلى الاعتماد على شركاتها الوطنيّة للمشاركة في الأنشطة البتروليّة، بما يسمح بوضع سياسة بتروليّة وطنيّة تتحكّم بعائدات هذا القطاع ومردود الأنشطة المكمّلة له.
ولهذا السبب تحديدًا، ارتفعت حصّة الشركات الوطنيّة من إنتاج النفط والغاز من 7% قبل 40 سنة، إلى نحو 80% اليوم. كما ارتفعت حصّة هذه الشركات من الاحتياطات العالميّة المثبتة من 9% فقط في ذلك الوقت، إلى أكثر من 91% اليوم. وهذه الأرقام بالتحديد، تعكس أهميّة الشركات الوطنيّة في قطاعات النفط والغاز في الدول البتروليّة اليوم، بل وفي الخطط الاقتصاديّة العامّة التي تضعها الدول لتوجيه جميع قطاعاتها على مدى سنوات عدّة.
في حالة لبنان، يكتسب الحديث عن تأسيس شركة البترول الوطنيّة اليوم أهميّة استثنائيّة، مع تسارع الخطوات نحو تكميل الإطار التشريعي والنموذج الاستثماري اللذان ينظمان مسار التنقيب عن الغاز واستخراجه. فتأسيس هذه الشركة اليوم، ولو بإطار ونطاق عمل محدودين، سيسمح لها لاحقًا بمواكبة نمو هذه القطاع تدريجيًا، بدل ترك الساحة خالية للسمسرات والصفقات المحليّة التي يمكن أن تستغل غياب الدولة عن هذا الدور. النقطة الأهم، تبقى ضرورة تكامل السياسة البتروليّة، التي ستسير على أساسها هذه الشركة، مع رؤية اقتصاديّة شاملة، تلحظ الدور الذي يمكن أن تحققه عوائد هذا القطاع في تنمية سائر القطاعات الاقتصاديّة.