قامت شركة «نستله» العملاقة للأغذية والمشروبات في الآونة الأخيرة بتحديث «ممارساتها التسويقية المسؤولة بخصوص منتجات الأطفال». وتقول الشركة إنها ستحد من تسويق الأطعمة غير الصحية والمصنعة بدرجة عالية للأطفال دون سن 16 عاماً، وذلك في إطار سياستها الجديدة التي ستدخل حيز التنفيذ في تموز المقبل؛ وتثني على نفسها لكونها «واحدة من أولى شركات الأطعمة والمشروبات التي تعتمد طواعية مثل هذه المعايير الصارمة».
مصلحة أم صحة؟
وليس غريباً أن تتخذ «نستله» هذه الخطوة. فعندما تكون الشركات والجمعيات الصناعية عُرضة للرقابة الحكومية، غالباً ما تروج للتنظيم الذاتي على أنه بديل أكثر فعالية لحماية الصحة العامة. والواقع أن العكس هو الصحيح على الأرجح. فعلى سبيل المثال، تبحث دراسة حديثة أجرتها شركة «PRICELESS SA» وباحثون في كلية الصحة العامة في جامعة «ويتواترسراند» في 20 إجراءً تطوعياً لشركات الأغذية والمشروبات في البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط، وخلصت إلى أن هذه الإجراءات «غالبًا ما تهدف إلى حماية مصالح الصناعة بدلاً من تحسين الصحة العامة».
جهود أفريقيا
وتؤكد جهود أفريقيا المستمرة للتصدي للأمراض المزمنة الحاجة الملحة لحث الحكومات على اتخاذ إجراءات صارمة ضد شركات الأغذية الكبرى، كما فعلت مع شركات التبغ الكبرى. وتمثل الأمراض غير المعدية مثل ارتفاع ضغط الدم، والسكري، وأمراض القلب والأوعية الدموية، والسرطان الآن 51 في المئة من الوفيات في جنوب أفريقيا ونحو 37 في المائة من الوفيات في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. ومن المتوقع أن يزداد عدد البالغين في أفريقيا المصابين بداء السكري الذي يبلغ حالياً 24 مليوناً، بنسبة 129 في المئة بحلول عام 2045.
فرض ضريبة
وتقدم تجربة جنوب أفريقيا الأخيرة دروساً مفيدة لواضعي السياسات بشأن مخاطر التنظيم الذاتي. ففي عام 2018، فرضت جنوب أفريقيا ضريبة على المشروبات المحلاة تسمى ضريبة تعزيز الصحة. ورغم أن قيمة الضريبة منخفضة للغاية، إلا أن الدراسات تشير إلى أن لها تأثيراً إيجابياً بالفعل، حيث قللت من استهلاك المشروبات المحلاة بالسكر.
ومباشرة قبل فرض الضريبة، ومع ارتفاع معدلات السمنة لدى الأطفال، أعلنت شركة كوكا كولا أنها لن تسوق منتجاتها للأطفال دون سن 12 عاماً، ولن تزود منافذ البيع في المدارس بالمشروبات الغازية والسكرية. وبعد مرور عامين على التعهد، وجدت دراسة عاينت 105 مدارس عمومية في البلاد «بعض الأدلة الأولية على أن التعهدات الطوعية التي تقدمها الكيانات التجارية ليست كافية لإزالة المشروبات السكرية والإعلانات من المدارس»، وأوصت بفرض حظر على المبيعات والإعلانات. واستنتج مؤلفو الدراسة أن تدخّل الحكومة سيكون على الأرجح أكثر فعالية بكثير.
مسألة ثقة
وفضلا عن ذلك، من العسير أن نتصور كيف يمكن لواضعي السياسات الوثوق بشركات الأغذية والمشروبات الكبرى في تنظيم نفسها بنفسها عندما تنتهك هذه الشركات القوانين واللوائح الوطنية بصورة روتينية. ففي عام 2012، على سبيل المثال، أعلنت جنوب أفريقيا عن قواعد جديدة تقيد تسويق حليب الأطفال دون سن الثالثة، بما يتماشى مع توصيات منظمة الصحة العالمية لتقنين بدائل لبن الأم. وقوضت «نستله» مراراً وتكراراً هذه اللوائح التنظيمية من خلال تمويل المؤتمرات، والفعاليات المتعلقة بتغذية الرضع والأطفال.
وفي عام 2021، على سبيل المثال، تعاونت «نستله» مع وسائل إعلام بارزة في جنوب أفريقيا لاستضافة منتدى عبر الإنترنت ادعت الشركة أنه سيفيد «جميع الأمهات والجدات والعمات والأوصياء على الصغار»، من خلال تزويدهم بكل ما يحتاجونه من معلومات بشأن الأطفال الصغار وتغذية الطفل. وحظي الحاضرون بفرصة الفوز بقسيمة شراء بقيمة 500 راند (28 دولاراً) من متجر البقالة، وهي حيلة فعالة خلال فترة ارتفاع أسعار المواد الغذائية. وألغي الحدث في نهاية المطاف بعد احتجاجات قام بها خبراء التغذية وجماعات المجتمع المدني بدعوى أن الحدث ينتهك الحظر المفروض على تقديم «حوافز، أو إغراءات، أو دعوات أيا كانت قد تشجع على بيع بدائل لبن الأم أو الترويج له».
أسلوب إستغلالي
ولا تقتصر هذه الأشكال من الأساليب الاستغلالية على جنوب أفريقيا أو شركة «نستله» فقط. إذ بالإضافة إلى تنظيم فعاليات مخصصة للآباء، تقوض الشركات بصورة متزايدة اللوائح التنظيمية من خلال استهداف الأمهات الجدد على وسائل التواصل الاجتماعي. وكشفت دراسة أجريت على بلدان عدة بخصوص شركات صناعة وصفات غذاء الرضع التي تبلغ تكلفتها 55 مليار دولار، بتكليف من منظمة الصحة العالمية، عن «المدى المذهل» لهذه الممارسات التي تشمل دفع مبالغ مالية لمؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات مقابل «وصولهم بصورة مباشرة إلى النساء الحوامل والأمهات في واحدة من أصعب اللحظات في حياتهن».
أمراض ووفيات
ويؤدي تسويق الأطعمة والمشروبات غير الصحية والمعالجة بدرجة عالية إلى خلق بيئات غذائية غير صحية. وهناك أدلة دامغة على أن توافر هذه الأطعمة والمشروبات، جنباً إلى جنب مع الممارسات التسويقية الخبيثة التي تقوم بها الشركات، يساهم في الإصابة بالأمراض والوفيات، ويعيق جهود صانعي السياسات للسيطرة على الأمراض غير المعدية.
ويجب أن تتخذ الحكومات إجراءات حاسمة للحد من عبء الأمراض غير المعدية. ويظهر فشل التعهدات الطوعية أنه لا يوجد بديل عن التنظيم الصارم القائم على الأدلة لتسويق الأطعمة والمشروبات المعالجة بدرجة عالية. ولأن الأمراض غير المعدية على وشك أن تصبح السبب الرئيسي للوفاة في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، فإن المخاطر أكبر من أن تُعطى الأولوية لمصالح الشركات العملاقة الساعية للربح على حساب سياسات الصحة العامة السليمة.