ضرورة قصوى وملحّة لزيادة عدد كبير من الرسوم الجمركية

يبيّن التقييم الذي أجرته اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) لاتفاقيتي التجارة الحرة اللتين أبرمهما لبنان مع الاتحاد الأوروبي ومع البلدان العربية الأخرى، أن تدنّي الاداء بموجب هاتين الاتفاقيتين يمكن أن يعزى عموماً إلى ثلاثة أسباب رئيسية. أولاً، تُعنى اتفاقيتا التجارة حصراً بالتدابير الحدودية (وتعتبران من الاتفاقيات «الضحلة») حيث تَمنحان معاملة وطنية غير تمييزية للسلع والشركات الأجنبية، ولكنهما لا تتدخلان في السياسات الاقتصادية المحلية بما يتجاوز هذا الشرط. أما الجيل الجديد من اتفاقيات التجارة الحرة فينتقل من اتفاقيات التكامل «الضحلة» إلى اتفاقيات التكامل «العميقة»، التي تتضمن قواعد بشأن السياسات المحلية التي تقع «داخل الحدود». وثانياً، يعجز لبنان عن توجيه صادراته إلى أسواقه التفضيلية بسبب محدودية قدراته الإنتاجية الوطنية، وشيوع تدابيره غير الجمركية، وتدهور قدرته التنافسية. وثالثاً، يجعل نظام التجارة المفتوحة الأحادي الجانب الذي اتّبعه لبنان منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، والذي تتضاءل بموجبه الفجوة بين التعريفات الجمركية على الواردات غير التفضيلية والتفضيلية، من الزيادات الكبيرة في الواردات مصدرَ قلق حقيقي. وفي ما يلي أبرز ما جاء في تقرير لـ»الإسكوا» تحت عنوان «سياسة لبنان التجارية في حقبة إنمائية جديدة:

ما يحق للبنان فعله

بما أن لبنان لم يصبح بعدُ عضواً في منظمة التجارة العالمية، فله كامل الحق في تنقيح هيكل تعريفاته الجمركية المفروضة على الواردات غير التفضيلية، وفي تطبيق قيود غير جمركية جديدة وضرائب خاصة. أما بالنسبة للواردات من شركائه التفضيليين، فيحق للبنان إما الشروع في اتخاذ تدابير وقائية أو ببساطة تجميد أحكام محددة في اتفاقات التجارة الحرة لتقليل الاختلالات في ميزانه التجاري وتيسير تعافيه وتحوّله الاقتصادي.

الأسباب الجذرية لعجز الميزان التجاري

بلغ العجز في الميزان التجاري اللبناني على مدى العقدين المنصرمين أكثر من 250 مليار دولار أميركي. وما يثير الدهشة أن هذا الاتساع في عجز الميزان التجاري للبنان ظهر في أغلبه بين عامي 2006 و2014، وهي الفترة التي كانت فيها اتفاقياته التجارية الرئيسية إما قد نُفّذت بالكامل منذ عهد قريب أو دخلت مرحلة التنفيذ التدريجي.

وكشفت التحرّيات المتعمقة لتتبع الاختلالات أن لبنان كان يعاني في عاميّ 2000 و2019 من عجز في ميزانه التجاري في جميع المنتجات الرئيسية، باستثناء اللؤلؤ الثمين في عام 2019. واستأثرت المنتجات المعدنية والمنتجات الكيميائية بنصف عجز الميزان التجاري في عام 2019؛ أما في عام 2000، فقد استأثرت بالنصف الآخر أربع مجموعات من المنتجات وهي تحديداً المنتجات المعدنية، والفلزات، ومعدات النقل، والمواد الكيميائية. كما كشفت حسابات الاختلالات في الميزان التجاري اللبناني التي أجراها الشركاء التجاريون الرئيسيون أن الاتحاد الأوروبي شكل أكبر مصدَر لمعظم العجز في تجارة المنتجات الذي كان أقل في عام 2019 مما كان عليه في عام 2000، في مقابل عجز الميزان التجاري مع تركيا الذي كان أكبر في معظم المنتجات في عام 2019 مما كان عليه في عام 2000. أما التجارة مع منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى (PAFTA) فقد سجلت فائضاً في معظم المنتجات.

هيكل واردات لبنان من المنتجات القديمة والجديدةففي عام 2019، كانت تهيمن المنتجاتُ القديمة وليست الجديدة على واردات لبنان من منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى والرابطة الأوروبية للتجارة الحرة «الإفتا» (EFTA)، مع حصة مماثلة تقريباً آتية من الاتحاد الأوروبي. أما هيكل الواردات من تركيا فقد كان مختلفاً: فقد فاق عدد المنتجات الجديدة المستوردة عدد المنتجات القديمة، حيث بلغت حصتها 67 في المائة من مجموع الواردات من تركيا في عام 2019، في حين بلغت حصة المنتجات القديمة 33 في المائة. وكان الاتحاد الأوروبي، إجمالاً وفي عام 2019، أكبر شريك تجاري للبنان، مع أكبر عدد من المنتجات المستوردة (3,774)، بينما حلّت الرابطة الأوروبية للتجارة الحرة في المرتبة الأخيرة من بين الشركاء الأربعة إذ كانت حصتها 1,016 منتجاً.

إصلاح السياسة التجارية الوطنية

ينبغي عموماً على أي بلد يسعى إلى وضع معدلات تعريفات جمركية جديدة مراعاةُ المبادئ الستة التالية:

• تيسير الأمن الغذائي والتنمية الريفية.

• تعزيز القدرة التنافسية الدولية.

• إستحداث فرص العمل.

• تقليل اختلالات الميزان التجاري.

• تيسير التحوّل الاقتصادي.

• تقليل تكاليف التكيُّف.

ومن خلال تقييم مفصل لهيكل التعريفات الجمركية الحالي في لبنان، حُدَّدت القوائمُ الرئيسية الأربع التالية للمنتجات المقترح تنقيحها: المنتجات الحساسة والخاصة؛ والمواد الخام والمعدات؛ والسلع الكمالية؛ والصناعات الناشئة.

حماية شديدة للمنتجات الزراعية الحسّاسة والخاصة

توجد فئتا «المنتجات الحساسة» و»المنتجات الخاصة» في معظم اتفاقيات التجارة الحرة، حيث يمكن التفاوض على معدلات جديدة لتعريفاتهما الجمركية مع الشركاء الرئيسيين، إما بغية استبعادهما تماماً من تحرير التعريفات الجمركية أو رفع معدلاتهما الحالية. وتنطبق فئة «المنتجات الحساسة» عموماً على البلدان المتقدمة النمو والبلدان النامية على حد سواء، بينما تنطبق فئة «المنتجات الخاصة» حصراً على البلدان النامية بهدف دعم الأغذية والأمن، وتأمين سبل العيش، وتعزيز التنمية الريفية.

ويشكل تحرير التجارة الزراعية مَصدراً رئيسياً للتوترات السياسية، سواء في البلدان المتقدمة النمو أو البلدان النامية. فبعد أكثر من 28 عاماً من اختتام جولة أوروغواي في مراكش في عام 1994، لا تزال الإصلاحات التجارية في القطاع الزراعي من المسائل الحساسة سياسياً والعصيّة غالباً على التحقيق.

وليس لبنان استثناء على ذلك، فلا يزال قطاعه الزراعي بحاجة إلى الحماية جنباً إلى جنب مع شركائه الرئيسيين، على الأقل خلال فترة انتقالية ريثما يتم إحراز تقدم كبير عبر تقليل التشوهات العالمية في الأسواق الزراعية وتحقيق تحديث كبير للقطاع. وينبغي أن تسعى السياسة الجديدة للتجارة الزراعية في لبنان إلى تحقيق الأهداف الرئيسية الثلاثة التالية: ضمان إستقرار نظام الإمدادات الغذائية؛ وضمان إيرادات مستقرة للمزارعين؛ وضمان مستويات مقبولة لأسعار المستهلكين. وقد حُدِّد ضمن هذه القائمة ما مجموعه 673 منتجاً من المنتجات ذات الرموز المؤلفة من 6 أرقام في النظام المنسَّق التي يمكن تحديد تعريفاتها الجمركية بين 20 و40 في المائة. ويمكن استخدام التعريفات الجديدة بالتوازي مع تدابير غير جمركية محددة، ولا سيما فرض حصص جمركية تفضيلية على الحبوب والمنتجات الحيوانية وفرض أسعار دخول على الفواكه والخضروات.

حريّة الوصول لأغراض المنافسة

ينبغي أن تعمل أسواق المواد الخام عادةً بطريقة حرة وشفافة. وينبغي بالمثل، بالنسبة لمعظم البلدان النامية التي تتطلع إلى تعزيز وتنويع صادراتها، أن تعمل واردات المعدات والمنتجات شبه الجاهزة بطريقة حرة وشفافة. ويوصى، بالنسبة لهاتين الفئتين من المنتجات وبغية تجنب التكاليف الناجمة عن تحويل التجارة، بمنح حرية الوصول لجميع وارداتهما من جميع جهات المنشأ بطريقة غير تمييزية. لكن ينبغي اّلا تُدرَج منتجات الطاقة في هذه القائمة لأسباب عديدة، ولا سيما لدواعٍ بيئية وضريبية. وقد حُدِّد ضمن هذه القائمة ما مجموعه 350 منتجاً من المنتجات ذات الرموز المؤلفة من 6 أرقام في النظام المنسَّق الذي ينبغي تحديد تعريفاتها الجمركية عند مستوى الصفر، مع اتخاذ الحد الأدنى من التدابير غير الجمركية المقتصرة على الأغراض الأمنية والصحية والبيئية. بيد أنه يمكن من منظور ضريبي تحديدُ التعريفات على هذه القائمة بنسبة 5 في المائة كحد أقصى.

ضرائب أعلى وتقليل الإختلالات

فرض ضرائب أعلى لزيادة الإيرادات الحكومية و/أو تقليل اختلالات الميزان التجاري: السلع الكمالية والمنتجات المسببة للزيادة الأعلى في اختلالات الميزان التجاري: على الرغم من الاتجاه المتزايد والطويل الأمد لاستيراد السلع الكمالية إلى لبنان، هناك حاجة ملحة لإعادة النظر في السياسة الضريبية لتقليل اختلالات الميزان التجاري. ومن المهم أيضاً مراعاة منظورين متعارضين عند التفكير في تعديل التعريفات الجمركية على السلع الكمالية. إذ يَعتبر المنظور الأول أنه لا ينبغي زيادة الرسوم على السلع الكمالية لتجنب فروق كبيرة في أسعارها بين الداخل والخارج، مما سيؤدي إلى تدفق استهلاكها إلى الخارج وفقدان إيرادات ضرائبها المحلية. أما المنظور الثاني فيمثل الجهات الداعية إلى «تفادي التخفيضات الضريبية» التي ترى أن من المناسب زيادة التعريفات الجمركية على السلع الكمالية لأن تعريفاتها ليست السبب الرئيسي لارتفاع أسعارها المحلية، كما أن المكاسب المتوقعة من زيادة الضرائب من حيث تقليل اختلالات الميزان التجاري أعلى بكثير من خفض الإيرادات الضريبية.

ونظراً لخصوصية السلع الكمالية، ينبغي أن تكون الزيادة في تعريفاتها معقولة وأن تُعزَّز بأدوات تكميلية مثل ضريبة القيمة المضافة وضريبة الاستهلاك. وقد حُدِّد ضمن هذه القائمة ما مجموعه 560 منتجاً من المنتجات ذات الرموز المؤلفة من 6 أرقام في النظام المنسَّق الذي يمكن تحديد تعريفاتها بنسبة 40 في المائة على الأقل.

الحماية لأغراض التحوّل والتنويع: «الصناعات الناشئة»

أمام لبنان خياران لتحوّله الاقتصادي. يعتمد أولهما على الخيارات الاستراتيجية أما الثاني فيعتمد على الرهانات الاستراتيجية. ويؤكد خيار التحوّل الاستراتيجي على الصناعات التي تندرج ضمن مجموعة القدرات الحالية للبلد ولكنها تتسم بقدر أكبر من التطور، مما يجعل من تنمية منتجات جديدة مسألة أسرع وأقل خطورة. وتحتاج هذه المنتجات الرئيسية إلى عمال ذوي مهارات عالية كما أنها تتسم بكثافة رأس المال. وقد حُدِّد ضمن هذه القائمة ما مجموعه 287 منتجاً من المنتجات ذات الرموز المؤلفة من 6 أرقام في النظام المنسَّق، ويتعيّن على صانعي السياسات استعراضها لتحديد خياراتهم الاستراتيجية. وينبغي، استناداً إلى هذه القائمة، تنقيحُ التعريفات صعوداً لفترة انتقالية، تتراوح عادةً ما بين 5 و10 سنوات، على هذه المنتجات لتتسنى تنميتها في البلد ريثما تصبح قادرةً على المنافسة في الأسواق الوطنية والأجنبية. وتتراوح التعريفات المقترحة ما بين 30 و40 في المائة.

مصدرنداء الوطن
المادة السابقةفي وزارة الصحة: تلزيم بنكهة الفضيحة
المقالة القادمةإنفراجة نسبية موعودة في تقديمات الضمان الإجتماعي