دفعت ضغوط الحرب السلطات اللبنانية إلى اللجوء إلى خيار السحب من الاحتياطي النقدي لدى البنك المركزي للمرة الأولى منذ أشهر لتفادي أي انعكاسات شديدة على السوق المحلية والاقتصاد المشلول أصلا منذ خمس سنوات. وتشير البيانات إلى أن احتياطي النقد الأجنبي انخفض للمرة الأولى في أكثر من عام مع تدخل مصرف لبنان المركزي لدعم الليرة بعد أسابيع من الحرب بين حزب الله وإسرائيل.
وتراجعت المخزونات من العملة الصعبة بأكثر من 400 مليون دولار في شهر أكتوبر الماضي، مسجلة أول انخفاض منذ شهر يوليو 2023، وفقا لبيانات البنك المركزي. ويبلغ احتياطي السيولة الإجمالي حاليا حوالي 10.3 مليار دولار، وذلك بعد استبعاد سندات دولية بقيمة 5 مليارات دولار تخلفت بيروت عن سدادها.
وشنت إسرائيل غزوا بريا على جنوب لبنان في سبتمبر الماضي، في مسعى للحد من قوة حزب الله المدعوم من إيران، والذي يطلق صواريخ ومسيرات إلى داخل إسرائيل منذ أكثر من عام. ويترافق هذا الغزو مع ضربات جوية مستمرة على أنحاء واسعة من البلاد، كلف الاقتصاد اللبناني نحو 20 مليار دولار حتى أواخر أكتوبر، حسبما قال وزير الاقتصاد أمين سلام لوكالة بلومبيرغ حينها.
وقبل الحرب البرية، استطاع لبنان الاستمرار في تعزيز الاحتياطي والسيطرة على التضخم، الذي بلغ أدنى مستوياته في سبتمبر عند 32.9 في المئة، وهو ما يُعزى جزئيا إلى عودة الكثير من المغتربين إلى البلاد لقضاء الصيف. وكان المركزي قد حقق احتياطيات إضافية قدرها 1.7 مليار دولار من خلال صفقات للعملة الأجنبية، وفقا لمسؤول بالبنك تحدث لبلومبيرغ طالبا عدم نشر هويته نظرا لحساسية الأمر.
ويمثل السحب من الاحتياطي الأجنبي تحولا عما كان عليه الأمر بعدما تولى وسيم منصوري مهام حاكم المركزي بالإنابة في يوليو 2023، حيث أوقف تمويل البنك المركزي للحكومة وتوجه بدلا من ذلك إلى دولرة الاقتصاد.
وساعد ذلك التمشي في استقرار سعر صرف الدولار عند مستوى يناهز 89.5 ألف ليرة بعدما تجاوز في فترة من الفترات حاجز المئة ألف ليرة. وتفجرت أزمة الاقتصاد اللبناني قبل اندلاع القتال الحالي، حيث تهاوت الليرة وتخلفت الحكومة عن سداد سندات دولية بحوالي 30 مليار دولار في 2020.
وخسر الكثيرون مدخراتهم مع تجميد القطاع المصرفي عمليات سحب الودائع ثم تخفيف ذلك بتقنين السحب بعد ضغوط شديدة من المتعاملين، كما ارتفع التضخم إلى خانة المئات وانكمش الاقتصاد بنسبة 30 في المئة. وحذرت الأمم المتحدة من احتمال انكماش الاقتصاد اللبناني بما يصل إلى 9.2 في المئة بنهاية العام الحالي إذا استمر الوضع الحالي في البلاد على ما هو عليه.
وقال مروان بركات، كبير الاقتصاديين في بنك عودة اللبناني، إن “الخوف الآن هو أن يواصل البنك المركزي السحب من الاحتياطي، خاصة إذا استمرت الحرب لفترة أطول”. وأضاف إدراج مجموعة العمل المالي (فاتف) لبنان ضمن قائمتها الرمادية للدول الخاضعة لتدقيق خاص بشأن غسيل الأموال الشهر الماضي، محنة جديدة للاقتصاد المنهك يتوقع أن تعمق أزماته إن لم يتم القيام بمعالجات ضرورية ومحددة.
ومن شأن الخطوة أن تزيد التحديات الاقتصادية التي تواجه البلد، الذي مُنع بالفعل من الوصول إلى أسواق الدين العالمية منذ تعثره في سداد ديونه قبل أربع سنوات.
ويقدر البنك الدولي أن الاقتصاد النقدي يشكل 46 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد والذي بلغ العام الماضي 18 مليار دولار نزولا من نحو 51 مليارا في 2019، حيث سعى اللبنانيون الذين لا يثقون بالبنوك في أعقاب الأزمة إلى التعامل بالعملة الصعبة. وأوجد ازدهار التعامل بالنقود أرضا خصبة لغسيل الأموال، وأدى إلى مخاوف من إمكانية وضع لبنان على القائمة الرمادية، والتي تضم البلدان ذات المخاطر العالية في ما يتعلق بغسيل الأموال وتمويل الإرهاب.
وسبق أن اعتبر مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي جهاد أزعور أنه بمعزل عن العبء البشري للنزاع الجاري، فإن لبنان “يحتاج إلى دعم المجتمع الدولي” لتخفيف وطأة الصدمة الاقتصادية، بمنحه هبات والدفع باتجاه تسوية الوضع. وشدد أزعور في مقابلة أجرتها معه وكالة فرانس برس في أكتوبر الماضي على أن “الأولوية تتمثل في حماية الأرواح وإنقاذ سُبل عيش الناس، إنما كذلك في تقديم مساعدات إنسانية كافية للذين فقدوا كل شيء”.