ضمور القطاع العقاري وسقوط الخرافة: لم يعد الناجي الوحيد

بين أواخر العام 2019 ومنتصف العام 2022، ولدت خرافة تقول أنّ القطاع العقاري هو الناجي الوحيد من الأزمة، بل وربما يكون المستفيد الأساسي منها. تغذّت هذه الخرافة من معطيات عديدة، ومنها الازدياد الهستيري في عدد العمليّات العقاريّة، وحجم المساحة الإجماليّة المشمولة بتلك العمليّات، خلال تلك الفترة. لكنّ أرقام العام 2022، والنصف الأوّل من العام الحالي، عادت لتُظهر أنّ نشاط القطاع العقاري بدأ بالتآكل والضمور كحال سائر القطاعات. ما يعني أن الانتعاشة التي حصلت بين أواخر 2019 وبدايات 2022 لم تكن سوى ردّ فعل مؤقّت وغير مستدام، جرّاء تطورّات معيّنة. وما إن انتهى مفعول هذه التطورات، حتى عاد القطاع إلى حالة الركود المتوقّعة.

الخلاصة الرئيسيّة التي يمكن الوصول إليها بعد دراسة أرقام القطاع خلال النصف الأوّل من العام الحالي، هي نفسها التي يمكن استخلاصها من دراسة أرقام أي قطاع في لبنان: لا يمكن الرهان على أي انتعاشة، أو حتّى تأقلم محدود، في ظل الانهيار الحاصل اليوم. أو بصورة أوضح، لا يمكن توقّع أي تطوّر إيجابي في أي نشاط اقتصادي، خارج سياق مسار التعافي المالي الشامل، الذي يفترض أن تقوده خطّة حكوميّة مدروسة. وبغياب هذه الخطّة حاليًا، سيأكل الاقتصاد المحلّي نفسه تدريجيًا، في جميع المجالات.

ولادة خرافة الناجي الوحيد وسقوطها

حين ولدت خرافة الناجي الوحيد، كان ثمّة ما تستند إليه بالأرقام الملموسة، على مدى الفترة التي تلت حصول الانهيار المالي، في أواخر العام 2019. فبعدما اقتصر عدد المعاملات العقاريّة على نحو 50.3 ألف عمليّة عام 2019، ارتفع هذا الرقم بشكل هستيري إلى أكثر من 82 ألف عمليّة عام 2020، أي بزيادة نسبتها 63.25%، ثم إلى أكثر من 110 ألف عمليّة عام 2021، بزيادة قدرها 34% مقارنة بالعام السابق. كان التطوّرات مدهشة، في الوقت الذي كان فيه اللبنانيّون يستشرفون معالم الأزمة التي يقبلون عليها. فبخلاف المتوقّع، لم يسقط القطاع العقاري، أقلّه وفقًا للمؤشرات المتاحة والمألوفة، مع سقوط القطاع المالي وتدهور الوضع النقدي.

لم تقتصر إنتعاشة المؤشّرات المتاحة على عدد العمليّات. فخلال الفترة نفسها كانت قيمة العمليّات العقاريّة ترتفع من 6.83 مليار دولار أميركي عام 2019، إلى 14.39 مليار دولار عام 2020، وصولًا لأكثر من 15.55 مليار دولار خلال العام 2021. بل وكانت حصّة الأجانب من هذه العمليّات تزداد خلال السنوات نفسها بنسبة 27% خلال العام 2020، و17% خلال العام 2021، ما أوحى بأن تسارع “الحركة العقاريّة” لم يقتصر على نشاط اللاعبين المحليين، بل شمل كذلك المستثمرين الأجانب. في النتيجة، كان كل شيء يوحي بأن القطاع العقاري تحدّى الأزمة، وبات مستفيدًا من حدوثها، وأن سقوط القطاع المصرفي لن يعني بالضرورة تضاؤل مساهمة القطاع العقاري في الناتج المحلّي الإجمالي.

في واقع الأمر، وكما هو معلوم، كانت إنتعاشة القطاع العقاري في تلك المرحلة محكومة بمجموعة من العوامل، مثل سعي المودعين لاستخدام سيولتهم المصرفيّة في عمليّات شراء عقارية، ولو بأسعار أعلى من سعر السوق الفعلي، وقبول المقترضين بهذه الشيكات لتسديد القروض المصرفيّة. وفي الوقت نفسه، شهدت الدوائر العقاريّة انتعاشة في عدد وقيمة العمليّات التي يجري تسجيلها، بفعل سعي كثيرين للاستفادة من تسديد الرسوم العقاريّة وفقًا لآليّات التخمين القديمة بالليرة اللبنانيّة. ببساطة، لم يكن أي من هذه العوامل يؤشّر لوجود انتعاشة مستدامة بالفعل، كما أوحت في تلك المرحلة بعض التقارير التي بشّرت بصمود القطاع العقاري في ظل الانهيار.

بالفعل، جاءت الأرقام لتؤكّد ذلك. فخلال العام 2022، انخفض عدد عمليّات الشراء العقاريّة بنسبة 27.34%، ليتقصر على نحو 80 ألف عمليّة (مقارنة بـ110 ألف عمليّة خلال العام السابق). أمّا الملفت أكثر للنظر، فهو انخفاض حجم العمليّات في النصف الأوّل من العام 2023 بنسبة 91%، مقارنة بالفترة المماثلة من العام السابق، إذ اقتصر عدد العمليّات على 3,425 عمليّة في النصف الأوّل من 2023 مقارنة بـ39,921 عمليّة في النصف الأوّل من العام 2022. وبذلك، كان من الواضح أنّ القطاع يتجه بالفعل إلى مرحلة من الضمور والركود، بعد التحسّن المؤقّت في العمليّات خلال الأعوام السابقة.

عوامل الضمور: تحلّل الإدارة العامّة وفقدان السيولة

في واقع الأمر، ثمّة الكثير من العوامل التي تفسّر الضمور الذي طال القطاع العقاري منذ العام 2022. وفي طليعة هذه العوامل يبرز التحلّل في الإدارة العامّة، الذي أدّى إلى إقفال معظم الدوائر العقاريّة لفترات زمنيّة طويلة، وإلى تأخّر إجراء المعاملات العقاريّة حتّى عند فتح بعض الدوائر. وهذا العامل لا يمنع فقط تسجيل المعاملات في حال إتمامها، بل يؤدّي إلى عرقلة الإجراءات التي يحتاجها المتداولون لإجراء المعاملات بشكل آمن وشفّاف، مثل إصدار الإفادات العقاريّة أو خرائط الإفراز أو وضع الإشارات على الصحف العقاريّة. وبهذا الشكل، بات السوق العقاري بيئة غير آمنة لإجراء المعاملات العقاريّة، كما ارتفعت مخاطر الاحتيال والتزوير في ظل الفوضى التي ضربت الدوائر الرسميّة.

العامل الثاني، يكمن تحديداً في غياب التمويل في السوق، مع استمرار الأزمة المصرفيّة، وهو ما يؤدّي إلى فقدان القروض السكنيّة التي لطالما مثّلت مصدراً أساسياً من مصادر الطلب العقاري. كما ساهم هذا العامل في فقدان القروض التجاريّة، التي كانت تموّل قبل العام 2019 مشاريع التطوير العقاري، ناهيك عن صعوبة إتمام العمليّات الماليّة بشكل آمن داخل النظام المالي نفسه. أمّا رزمة القروض السكنيّة المنتظرة من مصرف الإسكان، فما زالت حتّى هذه اللحظة مجرّد حقنة سيولة متواضعة جدًا، قياساً بحجم القروض المصرفيّة التي نما على أساسها القطاع العقاري في الماضي.

في واقع الأمر، كان البعض يراهن على الأزمة المصرفيّة نفسها كعامل مساعد للقطاع العقاري، من خلال توجيه مدخرات المتمولين –وهي بالدولار النقدي أو في المصارف الأجنبيّة- إلى شراء العقارات، بدل الاحتفاظ بها كوادئع مصرفيّة. إلا أنّ هذا الرهان سقط لاحقاً، بعدما نمت خلال سنوات الأزمة أعمال الشركات العقاريّة اللبنانيّة، التي تمارس أنشطة البناء في قبرص واليونان وغيرها من الأسواق الأجنبيّة، والتي تستهدف تحديداً ادخارات اللبنانيين. فهذه الشركات، أمّنت للمدخرين بدائل آمنة وموثوقة، وفي أسواق مستقرّة أمنياً ونقدياً.

في خلاصة الأمر، دخل القطاع العقاري أزمة شبيهة بالأزمات التي دخلتها سائر القطاعات الاقتصاديّة، وخصوصًا بعدما تم إنجاز مشاريع البناء التي بدأت قبل العام 2019، وشحّت المشاريع الجديدة التي يفترض أن تؤمّن العرض في السوق. أمّا من ناحية الطلب، فتم استنفاد موجة تسديد القروض التي حصلت في بدايات الأزمة، ولم تعد الشيكات المصرفيّة قابلة للاستعمال في شراء العقارات. وبهذا الشكل، لم يعد هذا القطاع فعلًا “الناجي الأخير” كما كان يعتقد البعض.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةصندوق النقد يحذر من انقسام الاقتصاد العالمي: قد تقلل الناتج الاقتصادي العالمي سبعة بالمئة
المقالة القادمةرد موازنة 2023: الفوضى المالية لا تصححها حسابات عشوائية