ضاق الخناق الاقتصادي والمالي على لبنان عن طريق طرفي الكماشة، الداخلي والخارجي. الأول تكفّلت الطبقة السياسية بإطباقه من خلال فوضوية سياساتها، فيما شكّل الصراع الدولي بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران ومَن يدور في فلكهما من دول أخرى، الطرف الثاني للكماشة.
اشتد الضغط حتى ظهرت مؤشرات الغيبوبة السياسية والاقتصادية والمالية بوضوح يُنذر بالكارثة، التي لن يحتملها أيّ من أطراف الصراع، ولا أركان السلطة الخائفين من انهيار الهيكل فوق رؤوسهم. لذلك، شكّل المؤتمر الاستثماري اللبناني – الاماراتي الذي انطلق يوم الإثنين 7 تشرين الأول في أبو ظبي، نقطةً تلخّص اتفاقاً ضمنياً على تهدئة الصراع وإفساح المجال أمام لبنان لالتقاط أنفاسه. فليس من مصلحة أحد خسارة أرض يمكن استغلالها كحديقة خلفية في كل صراعات المنطقة.
مؤشرات إيجابية
ارتفعت سندات لبنان الدولارية لإصدار استحقاق 2032 بمعدل 0.5 سنت ليسجل 65.57 سنت، فيما ارتفع استحقاق 2037 بمعدل 0.6 سنت لتسجل 65.96 سنت، وفق ما جاء في بيانات “تريدويب”، وذلك إثر انطلاق مؤتمر الإمارات وإعلان رئيس الحكومة سعد الحريري أن “لبنان يأمل تدبير ضخّ سيولة من الإمارات، ويرغب في جذب استثمارات إماراتية من خلال شراكات أجنبية”.
وهذا الارتفاع هو الثاني من نوعه بعد إعلان وزير المالية السعودي محمد بن جدعان، في شهر أيلول، أن “الرياض تجري مباحثات مع الحكومة (اللبنانية) بشأن دعم مالي، والإصدار المستحق في 2037 يرتفع نحو سنتين”.
وكان السفير الإمارات لدى لبنان حمد الشامسي، قد أكد أن بلاده تهتم لدعم لبنان، معتبراً أن المؤتمر المنعقد في أبو ظبي “سيؤسس لمرحلة جديدة للعلاقات الاقتصادية بين الإمارات ولبنان”. وكلام الشامسي وجد انعكاساً إيجابياً عبر كلام الحريري الذي أمِل أن يساهم المؤتمر في “جذب الاستثمارات الإماراتية إلى لبنان ولا سيما في قطاعات الغذاء، والبنية التحتية، والنفط والغاز، والطاقة المتجددة”. وآمال الحريري استندت على تقديم لبنان في مؤتمر سيدر “برنامجاً لاستثمار رأس المال بقيمة 17 مليار دولار، ستتدفق لدعم قطاع البنية التحتية خلال 8 إلى 10 سنوات من الآن”.
تلميع الصورة
تسارع الوفود السياسية اللبنانية إلى عرض صورة لبنان بأبهى حلّتها، وكأن العالم معزول عمّا يجري في البلاد. فالوفود التي تمثل أركان النظام السياسي واقتصادييه تتناسى أن من يجلسون في حضرتهم، هم من المشاركين في رسم سياسات المنطقة، ولا يجدي أمامهم تلميع الصورة وإغداق الوعود بالإصلاح والتغيير والتطوير. ومع ذلك، يصرّ الوفد اللبناني إلى مؤتمر الإمارات على عرض ما يكتنزه لبنان من فرص ومجالات تؤدي إلى النمو وتحسين أوضاع البلاد، من دون تقديم ضمانات ودلالات ملموسة على البدء بالإصلاح وتنفيذ المشاريع الاستثمارية الموعودة.
وفي السياق، أشار وزير الاتصالات محمد شقير إلى أن “الاستثمار مناسب في العقار على اختلاف أنواعه بسبب انخفاض أسعار العقارات. كذلك في القطاعات الإنتاجية من صناعة وزراعة وسياحة، مع توجه الدولة لتوفير الدعم والتحفيزات لها انطلاقاً من توصيات خطة ماكنزي، وفي البنية التحتية أيضاً مع توفير مؤتمر سيدر تمويلاً يتجاوز 11.5 مليار دولار لهذه المشاريع، وتخصيص نحو 3.7 مليارات دولار منها لتنفيذها بالشراكة بين القطاعين العام والخاص، وكذلك في النفط والغاز مع بدء الاستكشاف في البحر مطلع كانون الأول المقبل”.
إلى جانب العقارات، أبدى القطاع المصرفي استعداده للعب دور فاعل في عملية تعزيز النمو، إذ أكد رئيس جمعية مصارف لبنان سليم صفير أن “القطاع المصرفي مستعد وجاهز للمساهمة في تأمين المستلزمات المالية لقطاعي النفط والغاز حين يدخل لبنان في مرحلة التنقيب والتصدير”. مشيراً إلى أن “تأمين قروض زراعية وصناعية وسياحية مدعومة بفوائد تحفيزية سيساهم في تعزيز النمو وزيادة الإنتاجية وتخفيض العجز”.
لم تنأى الصناعة بنفسها عن حضور المؤتمر الخليجي، إذ عبّر وزير الصناعة وائل أبو فاعور عن واقع القطاع الذي يضم “1500 مصنع مسجل لدى وزارة الصناعة، يعني حوالى 26 في المئة من حجم الصناعات اللبنانية، وهناك 178 منتجاً لبنانياً في مجال الصناعات الغذائية والصادرات الصناعية الغذائية هي تقريباً 20 في المئة من حجم الصادرات”. ورأى أبو فاعور أن القطاع الصناعي يحتاج إلى “طريقة وتعاون من أجل رفع قيمة التبادل التجاري بين لبنان والإمارات”، موضحاً أنه “في العام 2018 بلغت الصادرات اللبنانية الى الإمارات 457 مليون دولار وبلغت الواردات من الإمارات 588 مليون دولار، يعني أن العجز بقيمة 131 مليون دولار، ونحن نستطيع ان نرفع حجم التبادل بشكل كبير”.
عودة خليجية الى لبنان
لطالما لعبت دول الخليج دوراً داعماً للاقتصاد اللبناني، خصوصاً في عز الاتفاق السوري السعودي. كما أن الأوتوستراد من بيروت إلى الجنوب لم ينسَ بعد صور وعبارات الشكر لقطر، والتي أطلقها رئيس مجلس النواب نبيه بري تعبيراً عن الامتنان للمساعدة القطرية للبنان بعد حرب تموز 2006.
واليوم، تعمل دول الخليج على استعادة دورها كداعم للبنان من ضمن سلسلة تدابير مرتبطة بالمتغيرات السياسية في المنطقة. فالإمارات استضافت المؤتمر كرسالة واضحة مفادها الرغبة بمساعدة لبنان، وطبعاً برضىً إيراني – سعودي – أميركي – أوروبي، حيث أن الإمارات حافظت على “خط العودة” مع الإيرانيين رغم انحيازها للسعودية بل وتحالفها معها في الكثير من المحطات السياسية والأمنية.
وبعيداً عن السياسة، فإن المنظور الاقتصادي لمؤتمر أبو ظبي قد يؤسس لودائع خليجية تعزز موجودات المصرف المركزي بالدولار وتُحفز الاستثمار في مختلف القطاعات الاقتصادية، وهو ما يعزز معدلات النمو فيما لو تمت إدارة الاستثمارات بصورة صحيحة، وأمّنت الدولة اللبنانية بنى تحتية وحوافز للمستثمرين. فمن الإمارات وحدها، يمكن للبنان الإفادة من الشركات الإماراتية ومن اللبنانيين المغتربين هناك، فضلاً عن الشركات الأجنبية الموجودة في الإمارات، والتي باشر الحريري بمد جسور نحوها من خلال اجتماعه على هامش المؤتمر، مع وفد من ممثلي الشركات البريطانية المقيمة في الإمارات والتي تهتم بالاستثمار في لبنان.