ضيعة غير مأهولة في لبنان.. منسيّة منذ نصف قرن

لا لافتات زرقاء تزيّن مدخليَ الضيعة، كالتي يُكتب عليها “أهلا وسهلا بكم في كْرَبْريبَا” أو “كْرَبْريبَا تشكر زيارتكم”. فقط، شجرتا سنديان معمّرتان تحدّدان مدخلَي الضيعة الشمالي والغربي. الأولى تبشّر قاصدها من رَسكيفا أنّه حطّ رحاله في كْرَبْريبَا. يجلس في فيئها، يروي عطشه ويمسح العرق عن جبينه ريثما يتابع سيره باتجاه قلب الضيعة. للسنديانة الأخرى الوظيفة نفسها إنما من الجهة المقابلة. تبشّر قاصدها الآتي من حماطورة أنّه بلغ وجهته. وهي بالنسبة للرهبان علامة أنهم ما عادوا في نطاق الدير.

أرض العبادة
كْرَبْريبَا التي يظهر اسمها على الخارطة اللبنانية، هي في الحقيقة قرية غير مأهولة بالناس ومهجورة بالكامل. لكن كْرَبْريبَا، التي يقال عنها ضيعة منسيّة، هي في الواقع مكان حاضر ليس فقط على الخارطة، إنما في ذاكرة أهلها الذين ما زالوا على قيد الحياة، وفي الذاكرة المتناقلة لأبنائهم.

تقع كْرَبْريبَا في شمال لبنان، لجهة الجبال، ضمن نطاق قضاء زغرتا الزاوية، وترتفع 450 و680 متر عن سطح البحر. بُعدها عن الطريق العام، الذي يصل زغرتا بإهدن، حيث تتوزع تباعًا معظم ضيع القضاء، ساهم في عزلتها والحفاظ على كونها أرضاً للزراعة والعبادة وحسب. يقول أنيس فريحة، في كتابه عن القرية اللبنانية، أنّ أصل تسمية كْرَبْريبَا مشتق من السريانية، وتعني الحراثة والفلاحة، نسبة للنشاط الاقتصادي الوحيد الذي مارسه أهل الضيعة. أما الأب الدكتور يوسف يمين فله رواية أخرى: “كْرَبْ” تعني قرّب أي عَبَدَ فيما “ريبَا” تعني الربّ، وبالتالي كْرَبْريبَا تعني التقرب من الرب أو عبادة الرب. لعلّ جمع الروايتين معًا هو الأكثر صحة، إذ جلّ ما كان يفعله أهالي كْرَبْريبَا هو الفلاحة والحراثة وعبادة الربّ.

منذ حوالى خمسين عامًا، فُرّغت كْرَبْريبَا من أهلها وتهاوت بيوتها بفعل مرور الزمن، فلم يبق منها اليوم سوى الخِرب والأنقاض. تحوّلت أراضي الضيعة بالكامل إلى أراض تابعة لدير حماطورة. لا دلائل حسيّة حول مسار تحوّل الأراضي لملكية الدير، وهنا يكمن السر في وقوع هذه الضيعة طيّ النسيان. وحسب رواية دير حماطورة، فإن هذه الأراضي كانت في الأساس ملكًا له، وليس قرار “انتقال” الأراضي لملكية الدير سوى دليل على ذلك. بعد فترة من انتقال الأراضي للدير، واظب الأهالي على “ضمان” الأراضي الزراعية والعمل فيها. لكنهم سرعان ما انتقلوا للعيش في بلدة رسكيفا في قضاء زغرتا أو في قضاء الكورة. وهما المنطقتان الحدوديّتان لكْرَبْريبَا. يتوزع أهالي كْرَبْريبَا على عائلات خمس منها حايك، عبد الله، ومتري.. وهم جميعهم من طائفة الروم الأرثوذكس، ويقال أنّ كل أهالي رسكيفا التابعين للطائفة نفسها، أصلهم من كْرَبْريبَا. ويقال فيما يقال حول هذه الضيعة المثيرة للاهتمام، أنّ أهلها هم مجموعات من الناس لجأت كل منها من ضيعة مختلفة إلى كْرَبْريبَا، حيث سكنوا واستقروا زمناً طويلا.

العبور من الماضي إلى الحاضر
على الرغم من أنها ضيعة منسيّة، إلا أن المهندس الشاب مايكل جبرين، ابن شمال لبنان، قرّر نبش الماضي من أجل إعادة إحيائه. وعندما حان وقت اختيار مشروع التخرج من الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة، في جامعة البلمند، بدا الأمر بديهيّا لجبرين، وهو جار كْرَبْريبَا. فما كان منه إلا أن اختارها موضوعا لبحثه. يهدف مشروع جبرين، بشكل أساسي، إلى إعادة أهالي كْرَبْريبَا إلى ضيعتهم. إذ إن الدراسة التي أعدها جبرين، عبر احتكاكه المباشر بالأهالي، أظهر رغبة معظمهم بالعودة في حال أتيحت لهم الظروف المناسبة. يقول جبرين أن “أهالي كْرَبْريبَا الساكنين حالياً في منطقة الكورة وفي بلدة رَسكيفا يعيشون في ظروف صعبة، كونهم لجأوا إلى أعالي المنطقتين لقربها من كْرَبْريبَا، ولكون العقارات فيها كانت أقل كلفة من قلب المنطقة، فوجدوا أنفسهم اليوم بحاجة لشق طرقات تصلهم ببيوتهم بشكل أفضل”. غير أن مشروع جبرين يهدف إلى جذب سكّان جدد لكْرَبْريبَا إضافة إلى السياح المهتمين باكتشاف مناطق مماثلة.

مشروع الإحياء
ينتقد جبرين وبنبرة حادّة المشهد المعماري في لبنان، الذي تحكمه وتنظّمه العشوائية في التوسع، والإهمال في الحفاظ على التراث، لا بل السعي عن سابق تصوّر وتصميم لتدميره. انطلاقاً من هذه القناعة، تمحور تساؤل جبرين الأول والأساس حول مصير كْرَبْريبَا والخِرب والأنقاض التي لا تزال شاخصة فيها: هل ستندثر القرية نهائياً؟ وما هو السبيل لإعادة الحياة فيها؟

يشكّل مشروع جبرين دليلاً قاطعاً على إمكانية التجديد والتطوير – وهو الشعار الذي يتسلّح به المهندسون والمتعّهدون في كلّ مرّة ينوون فيها تدمير ما تبّقى من المشهد اللبناني كما ألفناه – من دون المساس بالتراث والأنقاض التي تشهد على الماضي. يقول: “بدلا من تخيّل وتكهّن ما كانت عليه كْرَبْريبَا في السابق، وإعادة خلق ماض متخيّل، مع العلم أنّ ذلك غير ممكن وغير دقيق، سيعمل المشروع على المحافظة على الأنقاض كما هي، كشاهد على الماضي، بشكل تبقي عزلة كْرَبْريبَا حاضرة لتخبر قصتها، مع إضافة منشآت جديدة تلبّي الاحتياجات الجديدة”. ويضيف: “على هذا النحو يكون مشروع إعادة إحياء كْرَبْريبَا شكل من أشكال الحوار بين الماضي والحاضر”.

ينقسم مشروع جبرين إلى ثلاثة عناوين عريضة: السكني، ويضمّ الوحدات السكنية. الزراعي، ويضمّ مزرعة الحيوانات ومصنعاً للخمر. والثقافي، وهو عبارة عن متحف أنثروبولوجي. يحرص المشروع على المحافظة على النشاط الزراعي في كْرَبْريبَا. وهو النشاط الاقتصادي الوحيد الذي عرفته المنطقة على مرّ الزمن. لذا، يهدف جبرين أولا إلى تصنيف حرج الصنوبر في القرية محمية طبيعية. أمّا فيما يتعلق بالأراضي الزراعية، فينوي تحديدها بشكل واضح وهدم الوحدات العشوائية التي بناها الدير كالمزرعة وغيرها، بهدف بناء وحدات متناسقة مع الرؤية التي خلقها جبرين للمنطقة. فينقل جبرين المزرعة إلى حيث هي الجلال اليوم، ويخصص مكاناً عند مدخل القرية لبناء بيت إداري صغير، وبيت للدليل السياحي، وآخر لبيع لوازم التخييم والمشي وبعض المرطبّات. أمّا من المدخل الآخر لكْرَبْريبَا حيث دير حماطورة، فيتضمن المشروع إنشاء بوابّة كبيرة من شأنها أن تلفت نظر السائحين والمارّة من طريق الكورة فتجذبهم لزيارة كْرَبْريبَا والتعرف إليها عن كثب.

النسيج العمراني الاجتماعي
ينوي جبرين توسيع المساحة المخصصة لزراعة العنب وإنشاء معمل لصناعة الخمر، يكون الأول من نوعه في قضاء زغرتا الزاوية والكورة. يشير جبرين إلى أنّ الجانب المتعلق بالنشاط الزراعي في المنطقة هو الأسهل تنفيذاً والأقل كلفة. ويضيف: “بعد تنفيذ المرحلة الأولى من المشروع، يمكن الاستعانة بالمردود الماديّ لمعمل الخمر والمحصول الزراعي والمنتوجات الخاصة بالمزرعة من ألبان وأجبان، والتي تباع في صالة عرض ومطعم مخصصين لها في المشروع، من أجل تمويل الجزئين الثاني والثالث المتعلقَين بالوحدات السكنية والمتحف”.

أثناء دراسته للمنطقة، لاحظ جبرين أن بيوت أهالي كْرَبْريبَا كانت مبنيّة جنبًا إلى جنب بما يوفر ساحة مشتركة بين المنازل. يقول جبرين أن “الأب كان يبني بيتًا للعائلة، ثم ما أن يتزوجّ أحد أبنائه حتى يبني هذا الأخير بيتًا مجاورًا يسكنه مع زوجته، وهكذا دواليك.. إلى أن يخلق هذ التوسع ساحة بين البيوت”. يعتبر المهندس الشاب أنّ توزيع البيوت بهذا الشكل هو ترجمة للنسيج الاجتماعي لمجتمع كْرَبْريبَا. انطلاقًا من هذا الاستنتاج، حافظ جبرين على الخرب الثمانية الموجودة في المساحة السكنية، وبنى عدد من الوحدات حول كل خربة، لتبقى شاهدة على ذاكرة المكان. إضافة إلى ذلك، زرع شجرة في كل من الخرب لكي يعيد بث الحياة في قلبها، من دون المساس بها مباشرة. بهذه الطريقة، تكون الخربة ساحة مشتركة لكل مجموعة من الوحدات السكنية، وخربة أساسية وسط المساحة السكنية كلها، تشكل فسحة للمجموعات كافة. يلتقي هذا التصميم مع التوسع العمراني الذي عرف به أهالي كْرَبْريبَا في الماضي. أمّا الشكل الخارجي للمساحة السكنية فصممها جبرين بشكل يحاكي التفكك التدريجي لبيوت كْرَبْريبَا الأصلية، ويكون التصميم بالتالي راوياً لقصة وقوع هذه الضيعة طي النسيان.

متحف تحت الأرض
خصص جبرين مساحة لبناء متحفا أنثروبولوجيا، حيث لا تزال الخرب والأنقاض الأقرب إلى ما كانت عليه في الماضي. يقول: “لم أشأ أن يطغى المتحف على الخرب والأنقاض فاخترت بناءه تحت الأرض”. في مشروعه، بنى جبرين المتحف وجعل إحدى هذه الخرب مدخلا له. أمّا أرضيات الخرب الموجودة بطبيعة الحال على سطح المتحف، فأغلقها بالزجاج لتكون هذه المساحات هي مصدر الضوء الطبيعي الوحيد في المتحف. يعتبر جبرين أنّ “مرور الضوء الطبيعي من الخرب إلى المتحف يرمز إلى العبور من القديم إلى الجديد”. ويشير أيضا إلى أنه اختار أن تبدأ رحلة الزائر في المتحف من الخربة الأكثر هشاشة، وصولاً إلى الخربة التي لا تزال بحالة جيدة مقارنة بغيرها، وبالتالي فـ”هذه الرحلة أيضا هي عبور من الأقدم إلى الأجدد”.

يحتوي المتحف على مسرح صغير، أدوات دينية وأخرى استعملت في الحياة اليومية للأهالي، كتب ومخطوطات، مفروشات قديمة ومحل لبيع التذكارات، من شأنه أن يزيد المدخول للأهالي والعاملين في المتحف.

يقول جبرين في الختام أنّه كان بإمكانه أن يعيد خلق الضيعة كما كانت في السابق، من خلال استعمال المواد نفسها والتصاميم ذاتها والأشكال الهندسية عينها وغيرها. لكنه يعتبر أن عملًا كهذا لا يكون أصيلاً في العمق. إذ سيكون مجرد “نسخة” عمّا كان أصيلاً في السابق، خصوصاً وأن متطلبات الحياة اليوم اختلفت عمّا كانت عليه في السابق. من هذا المنطلق، يمكن القول أن عمل جبرين يتسم بالإبداع والأمانة المعمارية، لأنه نجح في أن يحافظ على ما كان في الماضي ويحترمه بصفته هذه، وأن يستوحي منه ويعبر من خلاله إلى الحاضر والمستقبل.

بواسطةأورنيلا عنتر
مصدرالمدن
المادة السابقةوزارة الإقتصاد تحظر بيع المنتجات التبغية للقاصرين
المقالة القادمةالإنترنت في المطار سيصبح “طيارة”