أزمة الإسمنت “الترابة” في لبنان واحدة من أزمات السوق اللبنانية التي لا تُحصى، تطل برأسها من جديد وتتجلّى بارتفاع أسعار المادّة ارتفاعاً كبيراً، فالأسعار المتداولة في الأسواق ليست طبيعية وهي تلامس الـ ٨ ملايين للطن الواحد أحياناً، أي ثلاثة أضعاف سعره الرسمي تقريباً، ما يُشكّل ضغطاً على قطاع البناء بأكمله، على الرّغم من أن الإسمنت منتج محلي في الأساس.
أمام هذا الواقع المأزوم يتعزّز دور “كارتيلات” الاحتكار والتهريب في استغلال القطاعات الاقتصادية كافة، وتقف السلطات الرسمية عاجزة عن إيجاد الحلول اللازمة، ولا جواب مقنع من المعنيّين رغم أنهم يعلمون بأن الشركات الثلاث التي تحتكر إنتاج وبيع الترابة في البلد تتحكّم بالأسعار، وسكوتهم عن الموضوع جعلهم أمام الشبهة حتى يثبتون العكس. فكيف تبرّر الشركات والوزارات المعنية تحليق أسعار الترابة في السوق السوداء؟
“الترابة الوطنية”
المدير الإداري في شركة الترابة الوطنية روجيه حداد يقول لـ “هنا لبنان”: “أزمة الإسمنت المفتوحة والمتجذرة في لبنان، تعود إلى الواجهة مع شح المخزون والإنتاج وإرتفاع سعر الطن نحو ثلاثة أضعاف عن سعره الرسمي وذلك بسبب المهل القصيرة للإنتاج التي لا تتعدى الشهر التي تعطيها وزارة البيئة لمصانع وشركات الإسمنت التي تعمل بكل طاقاتها الإنتاجية لتأمين هذه المادة، وهذه المشكلة تطرح أكثر من علامة استفهام لجهة الطريقة التي تدار بها هذه الأزمة المفتعلة”.
ويلفت حداد إلى أنّ “مقالع شركات الإسمنت في لبنان أقفلت قسراً أكثر من 70 % من أيام العمل في السنوات الثلاث الماضية وفي العام 2022 ولغاية اليوم أُقفلت المقالع 220 يوماً من أصل 304 يوم، نتج عن هذا الإقفال نقص حادّ في مادة الإسمنت في السوق من دون أي تقصير من شركات الإسمنت، بل بسبب السياسة المعتمدة والمتمثلة بإعطاء مهل محدّدة للشركات لإستخراج المواد الأولية من مقالعها مع تحديد كميّات غير كافية لتلبية حاجات السوق ما يجعل عرض المنتج لا يتماشى مع الطلب المحلّي”.
ويشير إلى أنّ “السوق اللبنانية تحتاج حاليّاً إلى نحو مليوني طن من الإسمنت سنويّاً في حين تبلغ قدرة الشركات على الإنتاج 6 مليون طن سنويّاً، هذا لو كان يُسمح لها بالعمل بشكل طبيعي، موجهاً سؤالاً لوزير البيئة: لماذا تفرضون على شركات الترابة مهلاً قصيرة للإنتاج ما يعيق عملها”؟
ويردف: “شركات الإسمنت تبيع لموزّعيها المعتمدين كميات الإسمنت المحددة في المهل المعطاة لها للإنتاج، وبالأسعار التي تحدّد أقصاها وزارة الصناعة أسبوعيّاً، أما إعادة بيع هذه الكميات المحدودة من قبل بعض المحتكرين بغية جني أرباح طائلة، فيؤكد أن هذه الظاهرة تختفي حتماً عندما يُسمح للشركات بإنتاج الإسمنت بشكل طبيعي أي عندما يتخطى العرض الطلب”.
أما بالنسبة للدعوة إلى إستيراد مادة الإسمنت في الوقت الذي تُمنع الشركات المحلية من إنتاجه، فيقول حداد: “هذا الأمر يؤدّي حتما إلى إفلاس الشركات المحلية وتشريد آلاف العائلات في ظلّ عدم السماح لها بتصنيع منتجها بشكل طبيعي”.
وطالب حداد وزارتي البيئة والصناعة الخروج من مبدأ المهل الإدارية للوصول إلى تراخيص طويلة الأمد يُسمح من خلالها للشركات الإنتاج في المقالع والمصانع مع إحترام أقصى الشروط والمعايير التقنية المتبعة دوليّاً.
كما طالب بفك أسر الشركات وفتح المجال لإنتاج حرّ يكفي حاجة السوق المحلية ويضع حدّاً لعمليات الإحتكار والتلاعب بالأسعار.
“البيئة” تُبرّر
من جهته، ذكّر وزير البيئة في حكومة تصريف الأعمال، ناصر ياسين، بأن موضوع شركات الإسمنت ليس مستجداً، وفوضى القطاع مزمنة تعود إلى عشرات السنوات، فهذا القطاع لم يتم تنظيمه بالطريقة المناسبة لا من ناحية الحماية البيئية ولا من ناحية المحافظة عليه والاستفادة منه بالطريقة المناسبة.
ويؤكد ياسين في الوقت عينه بأن الوزارة أطلقت ورشة تشريعية، وتعمل على إصدار قرارات تنظيمية ووضع معايير مشدّدة ترتبط بالمراقبة البيئية الحديثة والعلمية والمراقبة على الانبعاثات وعلى الحفر.
ومن الطروحات التي تعمل عليها الوزارة، وضع معايير علمية وهندسية لإعادة تأهيل المواقع والتي أتت نتيجة الحفر غير المنظم وأدت إلى التدهور البيئي.
ويشدّد ياسين على أنّ “الوزارة تعمل مع فريق علمي بهدف وضع معايير جديدة لاستخدام الفحم الحجري والعمل بشكل تدريجي لاستبداله، إضافة إلى مناقشة وحوار حول رفع التنافسية في هذا القطاع”.
ويتابع: “شركات الإسمنت تريد الحرية المطلقة وهو أمر غير معقول، لا بد من وجود ظوابط خصوصاً وأن هذه الصناعة من أكثر الصناعات التي يجب أن تُنظم نظراً للتقديرات البيئية المضرة الناتجة عنها، ومن ناحية أخرى فإن أهالي المناطق وخصوصاً منطقة الكورة الشمالية هم من أكثر المتضررين من الجرائم البيئية التي ترتكبها شركات الإسمنت، حيث فيها أعلى نسبة مرضى سرطان في لبنان في ظل كلفة استشفائية عالية جداً”.
وبحسب ياسين فإن وزارة البيئة وازنت بين مطالب الناس ومطالب الشركات، نحن لا نريد معاداة القطاع والقيمين عليه ولكن من واجبنا حماية المواطن والبيئة معاً، وهو السبب الأساسي للأذونات المحددة للشركات وسنلعب دائماً هذا الدور الناظم.
وطالب ياسين شركات الترابة العمل ضمن المعايير التي تعمل بها شركاتهم الأم في أوروبا، والالتزام بالمعايير والضوابط البيئية وعندها لن يلزمهم أحد بمهل محددة وقصيرة.
وشدّد على ضرورة دور وزارة الصناعة ووزارة الاقتصاد في هذا الملف لوضع حدّ للمحتكرين.
“الصناعة” تتهرّب و”الاقتصاد” حاضرة
وفيما حاول “هنا لبنان” الاتصال بوزير الصناعة جورج بوشكيان للوقوف عند موقفه من أزمة احتكار الإسمنت، إلا أنه تجاهل اتصالنا وأسئلتنا بعد أن رمى مسؤولية المراقبة والمحاسبة على وزارة الإقتصاد، التي هي فعلياً مسؤولة عن ضبط ومراقبة الأسعار.
أما وزير الاقتصاد والتجارة أمين سلام وبعد مناشدة وزير الصناعة لضبط ملف احتكار الترابة ومتابعة هذه المسألة، فيؤكد عبر موقعنا أن “مديرية حماية المستهلك مستمرة في جولاتها الرقابية في الأسواق لضبط المخالفات، وهي في موضوع الإسمنت سطرت في الأيام الأخيرة نتيجة حملة موسّعة محاضر بالمخالفين على أن تتم إحالتهم إلى القضاء المختص”.
وتمنى على وزير الصناعة بصفته وزير الوصاية أن يطلب من معامل الإسمنت تزويده بأسماء التجار الذين يستحصلون على المادة بالسعر الرسمي وإحالتها إلى الوزارة بغية إتمام دورها الرقابي. وتمنى عليه التأكد من جداول التوزيع الخاصة بمعامل الإسمنت وفقاً للأصول والقوانين المرعية الإجراء.
وشدد على أن “الحدّ من ارتفاع الأسعار يتحقق من خلال سماح وزير الصناعة بالاستيراد من الخارج بسعر أقل، ما يفتح المجال للمنافسة ولوقف أي مظاهر للاحتكار وتأمين الإسمنت بأسعار أقل بكثير مما هو عليه اليوم”.
ولفت سلام إلى أن “مسارعة بعض تجار الأزمات إلى استغلال حاجات المستهلك من أجل تحقيق أرباح غير مشروعة، تفترض بكل وزارة مختصة التنسيق مع الجهات الرقابية المعنية لتأمين أسعار عادلة واتخاذ أقصى الإجراءات بحق التجار والصناعيين المخالفين بما يشمل الإقفال وسحب التراخيص. مع التأكيد أن الدور الرقابي وحده لا يكفي لضبط الأسواق، بل يتوجب وضع رؤية شاملة تحمي الاستهلاك الوطني”.