نحو عام مر تقريباً على فشل آخر محاولة في مسلسل تلزيم “البريد”، الذي كان المهتمون بالقطاع قد تابعوا تفاصيله منذ شهر شباط 2023، ولا تزال وزارة الاتصالات تربط تنفيذ قرار مجلس الوزراء الصادر في شهر تشرين الثاني من العام نفسه، والقاضي بالإلتزام بقرارات ديوان المحاسبة في إطلاق جلسة تلزيم رابعة للقطاع، بانعدام مصادر تمويل دراسات السوق المطلوبة. هذا بمقابل ما يعرب عنه وزير الاتصالات جوني القرم في رد خطي على سؤال نيابي، نوقش باجتماع لجنة الاتصالات الأخيرة، عن عدم قناعته بأن تعديل أسعار الخدمات البريدية سنداً لقرار مجلس الوزراء نفسه الذي مدد عقد ليبانبوست إلى حين تلزيم الخدمة لمشغل جديد، سيكون كافياً لتأمين الإيرادات اللازمة للدولة، “كون التعديلات التي أدخلت على عقد ليبانبوست الأساسي منذ سنة 2002 تضمنت أحكاماً لا تصب في مصلحتها”، حتى لو كان القرم باشر بخطواته المتأخرة لتعديل هذه الأسعار، وفقاً لما كشفه للنائب ياسين ياسين. وهذا ما يعيد النقاش حول ملف البريد إلى المربّع الأول، وتحديداً إلى السؤال الأساسي الذي انطلق منه لدى انتهاء عقد الشركة المشغّلة قبل الدخول في زمن التمديد التقني لعملها بشهر آذار من العام 2023، وهو “لماذا لا تلجأ الوزارة إلى تأسيس شركة مساهمة لبنانية، يكون موضوعها تأمين الخدمات البريدية؟”..
جواب ميقاتي والقرم
في رده على هذا السؤال الذي وجهه النائب ياسين من ضمن مساءلة نيابية لرئيس حكومة تصريف الأعمال ووزير الاتصالات، يفيد القرم بأنه من ضمن الخيارات التي سبق أن اقترحها أمام مجلس الوزراء، كان خيار تأسيس شركة مساهمة لبنانية يكون موضوعها تأمين الخدمات البريدية باسم postal interim company. إجابة القرم تحمّل مجلس الوزراء مسؤولية إسقاط هذا الخيار، وبالتالي تضيع المسؤوليات الفعلية حوله، خصوصاً بعدما جاء الجواب الذي أرسل من قبل رئيس الحكومة على سؤال ياسين خالياً من مقدمة إجابة القرم على السؤال، ليتوافق جوابا ميقاتي والقرم على ذكر العراقيل التي تحول برأيهما دون إنشاء هذه الشركة، وفيها: “إن تأسيس شركة مساهمة من قبل الوزارة تنقل إليها جميع الموجودات والأصول والعقود المحوّلة من شركة ليبانبوست، يستلزم وقتاً، ومبالغ مالية طائلة، لكون عملية تحويل جزء كبير من التجهيزات والحقوق والموجودات وفقاً لأحكام العقد الموقع مع شركة ليبان بوست، يستلزم تسديد ثمنها. هذا فضلاً عن وجوب تأمين المبالغ اللازمة لتشغيل هذا القطاع، من مصاريف ورواتب للموظفين المنتقلين إلى الشركة، في وقت لا تتوفر فيه الإعتمادات والأموال اللازمة لتأمين ذلك، إضافة إلى افتقار المديرية العامة للبريد للموارد البشرية، والخبرات والتجهيزات”.
أحكام العقد
إلّا أن العودة إلى أحكام العقد المذكور، تبيّن بأن ما ذُكر ليس دقيقاً، ويتوّه السلطة النيابية الرقابية عن مضمون العقد الفعلي، ولا سيما ما ورد في المادة 47 المتعلقة بالتحويل. إذ تنص المادة على فترة انتقالية لمدة ستة أشهر، تتولى خلالها وزارة الاتصالات إدارة الأعمال البريدية اليومية تحت إشراف المشغل. وإذا كان هذا الشرط في العقد يترجم في إطار الحفاظ على استمرارية العمل في القطاع بعد إنتهاء عقد الشركة المشغلة، فإن المادة 47 نفسها تلزم المشغل على تسليم الخدمات البريدية جاهزة للاستعمال كلياً، وعلى تحويل الخبرات المكتسبة فيما يتعلق بالبيع، التسويق، التخطيط، البرمجة، الإدارة المالية واللوجستية، خطط العمل، إدارة العمليات المالية، والأشكال الأخرى من الإدارة البريدية، بالإضافة إلى تحويل الأصول المملوكة من قبل المشغل والمتعلقة بتشغيل وصيانة الخدمات البريدية والعقود ذي الصلة، والأبنية وكافة الأصول المملوكة من قبل المشغل والمتعلقة بها، مع الآليات والأثاث، بالإضافة إلى عقود الاستخدام المتعلقة بالموظفين والأجراء، الذين تتحمل الوزارة بدءاً من تاريخ الاستلام مسؤولية كل المبالغ التي تصبح قابلة لدفعها لهم وفقاً لعقود الاستخدام المحولة إليها.
هذا مع تأكيد هذه المادة من العقد، على “وجوب أن يتم التحويل إلى الوزارة من دون أي تعويض”.
سياسة المحاباة
ما ذكر يسقط طبعاً كل ذرائع الوزارة لعدم تسلم إدارة القطاع مباشرة، ويبين أن الدولة تملك فرص التحرر المباشر من عقدها “المجحف” مع ليبانبوست، وفقاً لآلية يحددها العقد نفسه، وأن النفقات التي تخشاها الوزارة مقرونة أيضاً بإيرادات القطاع. فلماذا لم يعتمد هذا الخيار منذ انتهاء مدة التمديد الأخير لعقد ليبانبوست إثر إطلاق عملية التلزيم في سنة 2023، ومن أين تستمد جرأة التمديد المتواصل لهذا العقد؟
يظهر السياق التاريخي لملف قطاع البريد، بأنه كغيره من القطاعات المنتجة، لا يزال رهينة المنظومة التي أوصلت لبنان إلى ما وصل إليه من انهيار. بعض هذا السياق يرتبط بما كشفه ديوان المحاسبة في تقريره الصادر سننة 2021، عن خضوع علاقة الدولة مع ليبانبوست “لمحاباة” جعلت جميع التعديلات التي لحقت بالعقد الأول الموقع معها، لمصلحة الشركة وليس الدولة.
ومن هنا لا يستبعد ياسين أن تكون الخطة الدائمة في المراحل التي اجتازتها محاولات التلزيم السابقة، كانت ولا تزال من أجل إبقاء الخدمة بيدLiban post نفسها، ولكن نظراً لوجود مخاصمة بين الدولة اللبنانية، ممثلة بهيئة القضايا، ولكون الشركة لم تستوف الشروط الأساسية للمشاركة في المزايدة، تمت الاستعانة “بصديق”، أي شركة تتقاطع مصالحها مع شركة Liban post فظهرت شركة Colis Privé France بتحالف مع ميريت إنفست ش. م. ل. اللبنانية وكلتاهما مملوكتان من شركة CMA CGM.
لم تكن Colis Privé مؤهلة طبعاً، ولذلك رفضت الهيئات الرقابية إرساء العقد عليها مرتين، الأولى من قبل هيئة الشراء العام، والثانية من قبل ديوان المحاسبة. أما نتيجة ذلك فكان مزيداً من المماطلة. وهذا ما يجعلنا نستنتج وفقاً لياسين “أنه إذا لم تستطع الوزارة إعادة تلزيم القطاع إلى Liban post أو تلزيمه إلى “الشركة الصديقة”، سنغرق في التمديد لشركة Liban post ونحن الآن نشهد على التمديد السادس أو السابع والذي قد يمتد إلى ما لا نهاية”.
ميقاتي وشركاته
لا يبدو هذا التحليل مستبعداً إذا ما تم النظر إلى القواسم المشتركة بين Colis Privé وليبانبوست، وسيرة كل منهما التي تظهر العلاقة مع “مجموعة سارادار”. فليبانبوست كانت مملوكة من شركة “بروفاك ليمتد”، المملوكة بدورها من شركة “كندا بوست”. وبعد إنسحاب كندا بوست من الشراكة إنتقلت أسهمها إلى “مجموعة ميقاتي” التي باعت بدورها الأسهم إلى “مجموعة سارادار”. فيما بينت معلومات صحافية سابقاً أنّ مديرين حاليين في مجموعة CMA CGM هم ممن كانوا يشغلون مراكز مسؤولة سابقاً في مجموعة “سارادار”.
لم تخف ليبانبوست يوما رغبتها بالاستمرار بإدارة هذا القطاع. بل كانت من الشركات التي سحبت دفتر الشروط قبل جلسة التلزيم الأولى في شهر شباط 2023، إلا أن مشاركتها بقيت محظورة قانونياً على رغم كل المحاولات التي جرت لتبرئة ذمّتها المالية تجاه الدولة، والتي رفضتها هيئة القضايا في وزارة العدل، لكون التقاضي لم يكن قد حسم بين الشركة والدولة اللبنانية في مجلس شورى الدولة.
القرم والصفقة السيئة
في رده على أسئلة النواب التي تناقش حالياً في جلسات متتالية للجنة الاتصالات، بدا واضحاً أن الوزير القرم لم يتخط مسألة رفض السلطات الرقابية للصفقة التي كانت الوزارة تنوي إرساؤها على Colis Privé. وهو يستند إلى التجربة السيئة الممتدة على مدار سنوات مع ليبانبوست، ليؤكد بأن المزايدة الأخيرة كانت ستلتزم بقرارات ديوان المحاسبة في تطبيق كل ما طلبه بتقريره الصادر عام 2021 إستدراكاً لمكامن الهدر التي تسببت بها العلاقة مع ليبانبوست.
إلا أن القرم يجهّل في جوابه الأسباب التي جعلت الديوان وهيئة الشراء العام يرفضان تلزيم الخدمة لـ Colis Privé، وفي مقدمها أن الشركة غير مؤهلة بالأساس، وإنما عدّلت الوزارة شروط المزايدة لجعلها مؤهلة. متجاهلة حقيقة أن الصفقة السيئة لا يمكن أن تعطي نتائج مثمرة، بدليل ما حصل في صفقة الـA2P (راجع “المدن”) التي ظل القرم يقول أنها من أفضل ما أنجزه في الوزارة قبل أن يتبين بإعتراف شركة “تاتش” نفسها أن الشركة غير المؤهلة التي التزمت خدمتها، تسببت لها بخسائر في إدارة الخدمة ومواردها.
ولكن ما بالنا بالـA2P، فلتلك الصفقة متابعات أخرى، ولنعد إلى قطاع البريد وخدماته. هذا القطاع الذي يعترف القرم في رده على سؤال ياسين أنه يحتاج إلى إعادة إنعاش، فيما يتبين أن قرار الحكومة يبقيه فقط على آلات التنفس الاصطناعي.
فالقطاع يدار من دون مردود من قبل شركة ليبانبوست. والمسألة ليست مرتبطة بانهيار العملة، بل أن الدولة لم تحصّل طيلة 25 سنة سوى على الفتات من الإيرادات التي يحققها. ولا سيما بعد التعديلات التي أدخلت على عقد الإلتزام خلال السنوات الأربع الأولى التي تلت توقيعه، والتي شملت بنوداً تتعلق بتاريخ مباشرة تنفيذ العقد ومدته التي امتدت حتى سنة 2018 بدلاً من العام 2010، وذلك من دون تعديل شطور الدخل ورفع نسبة حصة الدولة من مداخيل الخدمات، مع تكريس عدم استفادة الدولة من أي خدمات غير بريدية تقدمها الشركة.
رغم كل ذلك، يبدو عقد ليبانبوست في إدارة هذا القطاع وكأنه عصي على الإنهاء. وهذه الاستنتاجات يعززها القرار الأخير الذي صدر عن مجلس الوزراء، والذي أسقط خيار تسلم الدولة مباشرة لإدارة هذا القطاع، من دون أن يسعى لمطالبة وزير الاتصالات بإطلاعه على الخطوات التي اتخذها لتطبيق ما أوصى به مجلس الوزراء، رغم مرور أكثر من ثمانية أشهر حتى الآن على صدوره.
وهذا ما يثير شكوكاً حول رغبة الحكومة كما وزارة الاتصالات بطي صفحة هذا الملف على ما يضمن حقوق الدولة منه.
الخطر الأكبر الذي ترتبه هذه المماطلة، حسب ياسين، هو على مصلحة الدولة وعلى تطوير هذا المرفق والخدمات المتصلة به، مما يؤثر سلباً على حياة المواطنين والإيرادات التي تحرم منها الخزينة. بينما استعادة الدولة لهذا القطاع وأرباحه وفقاً لما يؤكده الخبراء في القطاع ممكن ومتاح، بشرط أن تتوفر النيات أولاً.