عبارة “صُنِع في الصين” لم تعد مجرد مزحة

إنكار الأمين العام للحلف الأطلسي مؤخرا وجود حرب باردة جديدة مع الصين محاولة لذر الرماد في العيون.. الحرب الباردة بدأت وهي على أشدها. وبينما ركزت الحرب الباردة الأصلية بين موسكو وواشنطن على سباق التسلح وسباق الفضاء، يتمحور التنافس الحالي بين الصين والولايات المتحدة حول التقنيات الحيوية التي تسيّر مجتمعاتنا كالذكاء الاصطناعي وتقنية G5.

فجأة أصبح الصراع بين الولايات المتحدة والصين العنوان المفضل والأبرز لوسائل الإعلام. فخلال الأعوام القليلة الماضية ركزت الإدارة الأميركية على العلاقات مع الصين معتبرة أن الوضع الراهن لهذه العلاقات لا يمكن أن يستمر، وأن صعود الصين قد وصل إلى نقطة تحوّل، بحيث أصبح مزيج “الاحتواء والتجارة” الذي ميز السياسة الأميركية على مدى عدة عقود غير مجد في التعامل مع بكين.

وتؤكد الأرقام الصادرة مؤخرا تفوق الصين على الولايات المتحدة وصعودها لتصبح الوجهة الأكثر جذبا للاستثمار الأجنبي المباشر خلال العام 2020، حيث زادت جائحة كورونا من وتيرة التحوّل نحو الشرق. وأظهرت بيانات رسمية أن الناتج المحلي الإجمالي للصين نما 2.3 في المئة عام 2020، لتصبح الصين الاقتصاد الكبير الوحيد في العالم الذي تفادى الانكماش، في ظل تدهور معظم الاقتصاديات الكبرى في العام الماضي.

ولفهم المعجزة الصينية يكفي أن نعلم أن الصين قبل عشر سنوات من اليوم لم تكن تعتبر منافسا مثيرا لقلق الغرب في المجال التقني. كيف تمكنت الصين من تحقيق كل ذلك لتظهر فجأة قوة ليس فقط اقتصادية تعتمد على رصيدها الهائل من اليد العاملة الرخيصة، بل قوة تكنولوجية يجب أن يحسب لها كل حساب؟

التمويل الحكومي كان نهجا رئيسيا ساعد على نجاح المغامرة الصينية. وزيادة الإنفاق التي حددتها بكين بنسبة 7 في المئة للخطة الرابعة عشرة تأتي بعد الزيادة الكبيرة في الإنفاق على التكنولوجيا في النصف الأخير من العقد.

الصين بلد كبير بمساحته، وكبير بعدد سكانه، وكبير بإرثه الحضاري، ومثل كل الكبار كان عليه أن يفكر ويتصرف بطريقة الكبار، وهذا ما فعلته حكومة بكين، التي ركزت على المشاريع الكبيرة. ومن أهمها المختبر الوطني لعلوم المعلومات الكمية، وهو منشأة ضخمة تمتد على مساحة 86 فدانا في مدينة “خفي”، عاصمة إقليم آنهوي. وهذه المنشأة، حسب مصادر غربية، هي أكبر مختبر أبحاث كمية في العالم.

أرادت الصين أن تؤسس لوادي سيليكون خاص بها وعلى طريقتها، فجمعت جميع باحثي الصين وعلمائها في موقع واحد، رغم المخاطر المترتبة على مثل تلك الخطوة التي انتقدها المشككون بفكرة إنشاء المختبر الوطني. لم تكترث بكين بآراء المشككين، فالمختبر هو أملها الوحيد للنجاح في العمل الكمي. وقال جو جوبينغ الأستاذ في جامعة خفي للعلوم والتكنولوجيا في الصين “قد يبدو هذا من الطراز القديم إلى حد ما، حتى على الطراز السوفيتي، لكنه يمكن أن يمنح الصين فرصة للفوز بالسباق”. وهذا ما كان لها.

والمنافسة القائمة بين القوتين هي المنافسة الجوهرية والأساسية التي تهيمن على زمننا الراهن، وفق جوناثان ماركوس محلل الشؤون الدبلوماسية في الـ”بي.بي.سي”، الذي دعا إلى “التخلي عن الأكليشيهات والمقاربات التاريخية الكاذبة في توصيفها”. فهذه ليست “الحرب الباردة الثانية، وإنما أخطر من ذلك بكثير”.

الصين تمتلك العديد من عناصر القوة، كما يقول ماركوس، ولديها أيضا العديد من نقاط الضعف. أما الولايات المتحدة فتعاني هي الأخرى من نقاط ضعف خطيرة، ولكنها تمتلك في الوقت ذاته دينامية ملفتة وقدرة على النهوض من جديد. ما يحدث في الصين لم يعد حبيس حدودها، فالصين قوة كونية لها تأثير على حياتنا جميعا. لذلك يدعونا ماركوس إلى شد الأحزمة “فالرحلة ستكون كثيرة المطبات، وما نحن إلا في بدايتها”. لقد نجحت الصين في وضع نهاية للزمن الذي كانت فيه عبارة “صُنِع في الصين” تسمع في الولايات المتحدة باعتبارها مجرد مزحة.

مصدرالعرب اللندنية - علي قاسم
المادة السابقةالذكاء الاصطناعي يحتل ورش إصلاح السيارات
المقالة القادمةزيادة في التحويلات الى سويسرا ناتجة من تغيير اللبنانيين العاملين في الخارج لسلوكهم المالي