عثرة الضرائب الحكومية… هل تصوّب عبر «المالية» و«البيئة» أولاً؟

إنّ أي سياسة ضريبية ناجحة تقوم على 3 أعمدة: الدستورية، العدالة، والفعالية الاقتصادية. لكنّ الضرائب الأخيرة التي أقرّتها الحكومة، على إثر اقتراح وزير المال ياسين جابر، تفتقد إلى هذه الركائز الثلاث. فبالإضافة إلى النقاشات القانونية حول شرعية الإجراءات، ثمة حاجة ملحّة لمقاربة ضريبية شاملة، تبدأ من ترشيد الإنفاق، تشمل توسيع قاعدة المكلّفين، وتصل إلى إصلاح هيكلي للنظام الضريبي. فهذه الضرائب، وإن بدت للوهلة الأولى كأمر واقع، ليست قدراً محتوماً؛ بل يمكن تصويبها، بل وتحوّلها إلى فرصة إصلاحية، فهل تتجنّب أن تكون بوابة لانفجار اجتماعي جديد؟

المخالفات الدستورية-القانونية

في حديث، لـ«الجمهورية»، أوضح المحامي كريم ضاهر، الأستاذ المحاضر في جامعة القديس يوسف (USJ)، أنّ هناك مخالفات عدة تتعلّق بالإجراء المُتخَذ بشأن زيادة الرسوم على المحروقات: «أولاً، المخالفة الأولى دستورية، إذ تنصّ المادتان 81 و82 على أنّه لا يجوز فرض ضريبة، أو تعديلها، أو إلغاؤها، إلّا بموجب بموجب قانون. كان بإمكان الحكومة، لو أرادت، أن تُرسل اقتراح قانون معجّل مكرّر إلى مجلس النواب طالما أنّه مُقترح فتح دورة استثنائية».

ويُشير ضاهر إلى أنّ المخالفة الثانية كانت لمبادئ المالية العامة الجوهرية (مخالفة قانونية)، وتحديداً «مبدأ الشيوع. إذ إنّه لا يجوز تخصيص مورد معيّن لتغطية نفقة معينة، بل إنّ مجموع الواردات يجب أن يُغطِّي مجموع النفقات. صحيح أنّه، لأسباب تتعلق بالمنفعة العامة، أو بالمصلحة العامة الاقتصادي، يمكن في بعض الحالات طرح تخصيص بعض الضرائب، كما هو مُقترح حالياً في موضوع «صَيرفة» أو الضرائب على الأرباح المتأتية من إعادة تسديد القروض بأقل من قيمتها وذلك، تعويضاً عن الخسائر اللاحقة بالمودعين، لكنّنا نبقى بنوع من ربط إيراد معيّن بنفقة معيّنة، وهذه هي المخالفة الثانية».

فيما أنّ المخالفة الثالثة، فتتعلّق بما يمكن وصفه «بالإجراء المرتجل وغير المدروس. إذ لم يُبنَ القرار على أساسَين مهمَّين: أولاً، دراسة أثر الوقع الاقتصادي الفعلي (Economic Impact assessment). ما هو تأثيره؟ ما هي نتائجه وارتداداته، ولاسيما على أسعار السلع وباقي القطاعات؟ ونحن نعرف أنّ رفع سعر المحروقات سيؤدّي إلى ارتفاع في أسعار العديد من المواد، لا سيما أنّ الكهرباء غائبة، وتعتمد المؤسسات والمصانع على المولّدات، ما يزيد من الكلفة ويؤدّي إلى اختلال في الأسعار وتضخّم مالي.

ثانياً، دراسة الجدوى: هل إذا فرضنا هذه الرسوم، تكون فعلياً أكثر فائدة من فرض ضريبة من نوع آخر؟ أي هل الإجراء المعتمد هو الأمثل من الناحية الاقتصادية والمالية؟ هذا يدخل في صلب التخطيط الضريبي والتخطيط المالي العام الذي يضع نصب عينيه مصلحة المواطن وتحفيز المواطنية الضريبية. لكن للأسف، لم تظهر طريقة مهنية، علمية، وموضوعية مع هذا الإجراء، وكنّا نأمل مع حكومة إصلاحية الإنتقال إلى حوكمة أكثر رشداً ودرايةً».

أولاً خفض النفقات

يرى ضاهر أنّ موضوع الضرائب لا يقتصر فقط على فرض الضرائب والرسوم، بل يتعلق بمنظومة الإيرادات والنفقات العامة معاً (Fiscal Policy) لتحقيق التوازن بينهما، موضحاً: «قديماً، كانت الدولة البوليسية تقتصر وظيفتها على تأمين الأمن وبعض النفقات الأساسية، من دون التدخّل في الاقتصاد أو الحياة الاجتماعية. وكان التقليد يقوم على مبدأ «أنّه توجد نفقات عامة يقتضي تغطِيَتها» أمّا اليوم، فأصبحت الدولة الراعية، أي لها أدوار ووظائف متعدّدة في المجالَين الاقتصادي والاجتماعي»، لأنّ غياب تدخّل الدولة في الوقت المناسب قد يؤدّي إلى تصاعد التطرّف والعنف وتعميق الفوارق بين الأفراد، كما حدث قبيل اندلاع الحربَين العالميتَين الأولى والثانية.

بما أنّ الدولة تموّل نفقاتها من إيراداتها، بالتالي عليها الموازنة بين الجانبَين عبر تنظيم الموازنة العامة المرتكزة على ثلاثة أمور أساسية: إقرار الإيرادات، ولاسيما منها الضرائب، واعتماد النفقات والتوازن المالي. من هنا، يُفنّد ضاهر مسار المعالجة على المدى القصير والقريب العاجل بـ»ترشيد وضبط النفقات، ممّا يُوفّر على الدولة الحاجة إلى فرض ضرائب إضافية. فمثلاً، بند رواتب وتعويضات القطاع العام لامس، بحسب ما هو مبيّن في قانون الموازنة في السنوات الأخيرة، نسبة 50% من مجمل النفقات، وبفارق كبير. وحتى الآن، لم تتخذ الدولة أي مبادرة جادّة في هذا الصدد، بينما المطلوب إصلاح الإدارة العامة عبر معالجة المرافق المتعثرة عن العمل المنتظم، إزالة الفائض البشري في عدة إدارات ووزارات، أو إعادة تأهيلهم لملء الشواغر و/أو لأدوار أخرى في القطاعين العام والخاص إن أمكن».

ثانياً، يمكن، بحسب الرئيس السابق للجمعية اللبنانية لحقوق المكلفين (ALDIC)، «اعتماد الحكومة الإلكترونية لتوفير الكثير من الجهد والمال والوقت، والحدّ من الفساد والبيروقراطية. وذلك من خلال اعتماد الأتمتة، التخلّي عن التواصل المباشر والمعاملات الورقية، والتقنيات التقليدية. ولترشيد النفقات عند إعداد الموازنة، لا يمكن النظر إلى كل بند بشكل منفصل، بل لا بُدّ من العمل على إصلاح النظام الضريبي بالتوازي، وتقسيم الحاجات المالية إلى 3 مستويات: قصيرة الأجل، متوسطة الأجل، وطويلة الأجل، ضمن برامج ومهام من خلال القانون التنظيمي (Loi organique) العصري المَبني على تقسيم وظائفي جديد للوصول إلى إحلال مبدأ الصدقية فضلاً عن موجب النتيجة والمساءلة.

المعالجة العاجلة

في الأجل القصير، يرفد ضاهر رئيس الحكومة أو وزير المالية بأربعة حلول «آنية، قابلة للتطبيق فوراً بالتلازم أو تباعاً».

أولاً، الكسّارات والمقالع: «يمكن للدولة الرجوع إلى دراسة مشتركة بين الـ USJ ووزارة البيئة، برعاية الوزير السابق للبيئة ناصر ياسين، التي قدّرت مستحقات تصل إلى قرابة مليارَي دولار مترتبة على أصحاب ومشغلي الكسّارات والمقالع، معظمها غير مرخّص. يجب إصدار أوامر قبض وتكليف، وفي حال المنع عن التسديد تنفيذ ما تنص عليه القوانين المرعية الإجراء، ولاسيما منها قانون الإجراءات الضريبية بالنسبة إلى الإمتياز العام للخزينة والحجز على الصول والتحصيل الجبري وعند الاقتضاء الملاحقة الجزائية عملاً بالمرسوم الإشتراعي رقم 156/83 (تهرّب ضريبي) والقانون رقم 44/2015 (تبييض أموال). وعلى هذا الأساس، يمكن التواصل والتعاون مع البلديات وإرسال مراقبي وزارة المالية برفقة الجيش والقوى الأمنية لتحصيل المستحقات، ومحاسبة البلديات التي لا تتعاون، بل وأحياناً تحميها مع النافذين لتحقيق منافع خاصة».

ثانياً، الأملاك البحرية: «هناك متأخّرات مالية هائلة بسبب رسوم قديمة فُرِضت وفق معايير لم تَعُد قائمة، وهؤلاء المستفيدون وسّعوا أعمالهم وتضاعفت أرباحهم. فيجب التدقيق وإعادة تقدير المستحقات وفقاً للمعايير الجديدة، وتحصيلها وتحويلها إلى خزينة الدولة».

ثالثاً، تنفيذ قانون الموازنة لعام 2019 رقم 144 (الصادر بتاريخ 30/7/2019): «الذي ينصّ على إلزام البلديات بإجراء مسح شامل ضمن نطاقها الجغرافي خلال 6 أشهر، لتحديد المؤسسات المسجّلة وغير المسجّلة لدى الإدارة الضريبية. فتتسع قاعدة المكلّفين بالضرائب، لأنّ تطبيقه يكشف وجود مئات المؤسسات غير الملتزمة، بدءاً من مُشغّلي المولّدات غير الشرعيِّين، إلى شركات الإنترنت والكابل العشوائية وغير المرخصة، وكلها تعمل خارج أي إطار قانوني، ولا تدفع ضريبة دخل أو حتى ضريبة على القيمة المضافة».

هنا يُشير ضاهر إلى أنّ «البلديات لن تُسخّر إمكانياتها لمصلحة وزارة المال إلّا إذا حصلت على مقابل لذلك، وهذا حقها بطبيعة الحال؛ خصوصاً أنّ إجراء العام 2019 لم يتضمّن أي حوافز للبلديات. لذلك، يمكن اعتماد آلية مشابهة لتلك الموجودة في قانون «كاشفي الفساد»، الذي يتيح منح نسبة من التحصيل لِمَن يكشف الفساد، فتمنح الدولة البلديات نسبة محدّدة من المبالغ التي تحصّلها الإدارة الضريبية بناءً على المعلومات والتبليغات التي توفّرها».

كما أنّ هناك إجراءً رابعاً، وهو القانون 55/2016 (نُشِر مقال مفصّل عنه في تاريخ 19 آذار 2025)، الذي يُفترض أن يُستكمل عبر تفاصيل تقنية صغيرة مثل تجهيز Server بحاجة إلى تمويل لم يؤمَّن عبر وزارة المال، بسبب تلكّؤ سياسي يرفض حصول لبنان على المعلومات المالية والضريبية عن اللبنانيِّين المقيمين ضريبياً في لبنان، والذين يحصلون إيرادات رؤوس أموال منقولة من الخارج (أسهم، سندات، فوائد من قروض أو حسابات مالية، أرباح رأس مالية…). وإذا دعت الحاجة، بحسب ضاهر «يمكن رفع نسبة الضريبة على رؤوس الأموال المنقولة (مثلاً من 10% إلى 15%)، خصوصاً أنّ النسبة الحالية أدنى من ضريبة الدخل التصاعدية على الأعمال المهنية والتجارية والصناعية والرواتب والأجور التي تصل إلى 25%. لكن يحتاج ذلك إلى دراسة دقيقة لتقدير تأثير هذا الإجراء على الواقع الاقتصادي، وجدواه على المدى القصير والبعيد».

على المدى المتوسط والطويل

لا شكّ في أنّ إصلاحاً شاملاً للنظام الضريبي برمّته يجب أن يكون على المديَين المتوسط والطويل، فيجب «الانتقال من نظام الضرائب النوعية، الذي يفتح المجال واسعاً للتهرّب الضريبي وتفادي التسديد، إلى نظام الضريبة الموحّدة على الدخل التي تعني وضع جميع الإيرادات، بمختلف أنواعها، ضمن وعاء ضريبي واحد، بدلاً من أن يكون لكل نوع من الإيرادات نظامه ونسبته المختلفة – ما يسمح بتجاهل أو إخفاء بعض هذه الإيرادات – سواء المتأتية من داخل لبنان أو من خارجه، ممّا يؤدّي إلى زيادة في مدخول الدولة من الضرائب، ويحقّق نوعاً من العدالة الضريبية بين المكلّفين، انسجاماً مع المادة السابعة من الدستور والفقرة (ج) من المقدّمة».

مع اعتماد الضريبة الموحّدة على الدخل، لا بُدّ أيضاً من تعديل عدد من القوانين الأخرى لتتناسق مع هذا النظام «كضريبة الأملاك المبنية، إذ يدفع الشخص الضريبة عينها على القيمة التأجيرية للعقار، سواء أكان يسكن فيه أو يؤجّره، فيتوجّب إدراج الضريبة المفروضة على الإيجار ضمن ضريبة الدخل. أمّا الضريبة على الإقامة في المسكن الشخصي، فيجب أن تُعامل كرسم عقاري، وتذهب عائداته إلى البلدية المعنية. كما يجب احتساب ضرائب إضافية على الآلات والمعدات الموجودة داخل العقار، إذا كانت تُستخدم لأغراض تجارية أو إنتاجية».

كما لا بُدّ من الدخول في البيانات والمكننة، لأنّها تُتيح القدرة على رصد كل عمليات التهرّب الضريبي، خصوصاً على مستوى ضريبة الدخل التصاعدية. وهنا يشرح ضاهر ضرورة ربطها بشكل رئيس «بعمليات الاستيراد، عبر ربط كل من الجمارك، وغرفة التجارة والصناعة، وزارة الاقتصاد، وزارة المالية، والمصارف. فعندما يُفتح اعتماد مصرفي (بما أنّ السرية المصرفية رُفعت) تُصبح كل البيانات مكشوفة أمام الدولة. ومع اعتماد تقنية الـ Blockchain، تصبح المعلومات محصّنة، ولا يمكن لأي جهة التعديل في الأسعار أو التلاعب بالبيانات، إذ تختلف حالياً آلية التصريح بحسب الجهة».

بمعنى آخر، يُصرّح صاحب البضاعة لكل جهة بسعر مختلف لأسباب متعدّدة: «يسجّل السعر الحقيقي عند فتح اعتماد مصرفي مضطراً. لدى الجمارك، يُخفِّض السعر لتخفيف الرسوم. وزارة الاقتصاد تُراجع السعر منعاً للاحتكار أو حمايةً للمستهلك. ولدى وزارة المال يُخفّض السعر مجدّداً بهدف دفع ضرائب أقل». لكن مع ربط الإدارات واعتماد الـ Blockchain، يصبح من المستحيل التلاعب بالسعر. كما أنّ هذا النظام يُسهّل أيضاً مراقبة حسن احتساب وتسديد ضريبة الدخل والضريبة على القيمة المضافة.

الأثر الاجتماعي لـ«عثرة» الحكومة

برّرت الحكومة فرضها للضرائب على المحروقات والكهرباء لتأمين التمويل اللازم لتغطية مستحقات العسكريِّين البالغة نحو 225 مليون دولار. لكنّ توجّهها المرتكز على زيادة الضرائب غير المباشرة كان له أثر عكسي، وأضرّ بالعسكريِّين أنفسهم. هنا يشرح ضاهر أنّ «الزيادة التي مُنِحت لهم ارتدّت عليهم من خلال ارتفاع تكاليف المحروقات والتنقلات. وكأنّها زيادة شكلية فقط، لأنّ ما يُعطى بيَد، يُؤخَذ بالأخرى. في حالة الجَيش فإنّ الزيادة لم تَعُد عليهم بالنفع بل بالضرر، نظراً لارتفاع كلفة المعيشة. فالإشكالية في الضرائب غير المباشرة أنّها تؤثر على الجميع، لا سيما على ذوي الدخل المحدود، لأنّها لا تراعي مبدأ العدالة الضريبية، بل تضربه في صميمه، وتُضعِف ما يُعرف بـ«الالتزام الضريبي» والمواطنة الضريبية كما بالقدرة الشرائية للمواطنين».

علماً أنّ كتلة «الجمهورية القوية» (حزب القوات اللبنانية) قدّمت طعناً بالرسوم استند إلى المبادئ الدستورية التي أشار إليها ضاهر سابقاً، مثل مخالفة المادة الـ 31 من الدستور، غياب دراسة جدوى واضحة، مبدأ الشيوع، ومبادئ أخرى. علماً أنّ وزراء من «القوات» كانوا قد صوّتوا لصالح إقرار هذه الضرائب الجديدة.

مصدرالجمهورية - شربل البيسري
المادة السابقةبعد تهديداتها… هل تستطيع إيران فعلاً إغلاق مضيق هرمز؟
المقالة القادمةانتكاسة موجِِعة للسياحة… إلغاءات محسومة وأخرى قيد الترقّب!