سجلت دول مجلس التعاون الخليجي الست عجزاً مالياً متفاقما خلال الأشهر الستة الأولى من العام الجاري بقيمة 180 مليار دولار، متأثرا بتهاوي عائدات النفط وتداعيات جائحة فيروس كورونا الجديد التي شلت مختلف الأنشطة الاقتصادية.
وتستأثر السعودية وحدها بنحو 55% من إجمالي العجز في دول الخليج، وفق تقرير صادر مؤخراً عن وكالة “ستاندرد آند بورز” للتصنيف الائتماني العالمية، التي توقعت ارتفاع العجز التراكمي إلى نحو 500 مليار دولار بحلول عام 2023.
وفقا لوكالة التصنيف العالمية، فإن العجوزات تفاوتت من دولة إلى أخرى بالمنطقة في النصف الأول، وتراوحت بين 15% و25% من إجمالي الناتج المحلي، باستثناء قطر التي حافظت على عجز بنحو 8%.
وتمت تغطية عجز دول الخليج خلال الأشهر الستة الأولى من العام الجاري باقتراض 100 مليار دولار، منها حوالي 60.3 مليار دولار على شكل سندات بارتفاع 10 مليارات دولار عن العام الماضي 2019، فيما تمت تغطية الجزء المتبقي (80 مليار دولار) بالسحب من الاحتياطيات العامة.
وتوقع صندوق النقد الدولي، في أحدث تقاريره حول آفاق الاقتصاد العالمي في 24 يونيو/حزيران الماضي، انكماش الاقتصاد في منطقة الخليج بنسبة 7.6% في 2020.
وفي السعودية بلغ العجز في ميزانيتها في الربع الثاني من العام الحالي 109.23 مليارات ريال (29.12 مليار دولار)، مرتفعا من حوالي 9 مليارات دولار في الربع الأول، وفقا لبيانات وزارة المالية.
وبحسب بيانات الوزارة أيضا، جمعت المملكة 44.56 مليار ريال (12 مليار دولار) من سندات دين في الأسواق الدولية، و41.12 مليار ريال (11 مليار دولار) من السوق المحلية، إضافة الى سحب 48.67 مليار ريال (حوالي 13 مليار دولار) من الاحتياطيات.
وحتى نهاية يونيو/حزيران، ارتفع الدين العام التراكمي للمملكة إلى 820 مليار ريال (حوالي 218.6 مليار دولار)، من 678 مليار ريال (180.8 مليار دولار) في نهاية 2019.
وتتزايد الضغوط المالية على السعودية عاما تلو الأخر منذ نهاية 2014. وفي مارس/آذار الماضي، حذر صندوق النقد الدولي من اندثار ثروات المملكة في عام 2035، إذا لم تتخذ “إصلاحات جذرية في سياساتها المالية” التي ترتكز أساساً على عائدات النفط مثل باقي دول الخليج، التي توقع أن تندثر أيضاً ثرواتها في سنوات متفاوتة، لتكون البحرين الأقرب إلى هذا السيناريو عام 2024.
وتعمل الأسعار الرخيصة للنفط على جرّ الموارد المالية للبلدان المنتجة للنفط إلى الانهيار، حيث كشف تقرير لوكالة “فيتش” للتصنيف الائتماني العالمي، في إبريل/نيسان الماضي، أن السعودية، بحاجة إلى سعر 91 دولاراً للبرميل، لتحقيق نقطة تعادل في موازنتها، بينما وصل خام برنت العالمي بعد رحلة شاقة من محاولات الصعود عقب أشهر طويلة من الهبوط منذ بداية العام الجاري إلى نحو 45 دولاراً للبرميل.
واضطرت السعودية بجانب الاستدانة إلى بيع أصول خارجية، حيث كشف صندوق الاستثمارات العامة (الصندوق السيادي) في وقت سابق من أغسطس/آب الجاري عن بيع حصصه في شركات عالمية كبرى أغلبها أميركية، وتقليص مساهماته في كيانات أخرى، من أجل سداد ديون وتقليص خسائر عميقة تكبدها، بسبب تداعيات جائحة فيروس كورونا الجديد على الأسواق العالمية.
وزادت جائحة كورونا من الضغوط المالية التي تتعرض لها المملكة، إذ سببت خسائر فادحة لاستثمارات خارجية تبناها وليّ العهد محمد بن سلمان خلال السنوات الأخيرة.
وبحسب بيان صادر عن وزير المالية محمد الجدعان، في يونيو/حزيران الماضي، حولت المملكة ما إجماليه 40 مليار دولار من الاحتياطيات الأجنبية لدى مؤسسة النقد العربي السعودي لتمويل استثمارات لصندوق الاستثمارات العامة، في مارس/آذار وإبريل/نيسان، من دون ذكر مزيد من التفاصيل عن التحويلات التي قال إنها جرت “بشكل استثنائي”.
وفي تقرير لها في 17 مايو/أيار، ذكرت صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية، أن لجائحة كورونا وانهيار أسعار النفط تأثيرات سلبية على الطموحات والأحلام الكبيرة التي كان يخطط لها بن سلمان.
ولم تقتصر عمليات سحب الأموال لتغطية الخسائر وسد العجز المالي للمملكة على بيع المساهمات في شركات عالمية والسحب من الاحتياطي النقدي والاستدانة محلياً ودولياً، بل امتدت إلى تقليص الاستثمار في أدوات الدين الأميركية التي تعد السعودية أكبر الدول الخليجية استثماراً فيها.
وأظهرت بيانات صادرة عن وزارة الخزانة الأميركية، أن السعودية قلصت حيازتها في سندات الخزانة بنهاية مايو/أيار الماضي، إلى 123.5 مليار دولار، مقابل 184.4 مليار دولار في فبراير/شباط.
ولم تفلح خطط وإجراءات السعودية لإقصاء منافسين كبار في سوق النفط. ففي ذروة جائحة كورونا، خلال مارس/ آذار وإبريل/نيسان الماضيين، شنت الرياض حرب أسعار على منتجين من خارج منظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك) على رأسهم روسيا المنافس الرئيسي للمملكة في سوق الطاقة العالمي.
وهدفت الحرب إلى الدفع بموسكو لاتفاق على تخفيضات في الإنتاج لإعادة التوازن إلى أسواق الطاقة، التي تراجع الطلب فيها بأكثر من 15%، الأمر الذي ألحق ضررا بالغا في اقتصاديات المنتجين.
لكن، وبإجماع تقارير وأرقام محلية ودولية، بما في ذلك تقارير وزارات المالية في دول الخليج نفسها، تظهر أن السعودية وحلفاءها، وباقي دول مجلس التعاون الخليجي وحتى منتجي الزيت الصخري في الولايات المتحدة الأميركية، كانوا الأكثر تضررا من هذه الحرب.
وتحتاج دول الخليج لسعر لبرميل النفط بين 50 دولارا في الحد الأدنى للكويت وأكثر من 80 دولارا للسعودية والبحرين، للوصول إلى نقطة التوازن في موازناتها، بينما لا تحتاج دولة مثل روسيا إلى أكثر من 43 دولارا للبرميل، وفق تقديرات نشرتها وكالة الأناضول، أمس الخميس.
هذا يعني أن بقاء الأسعار في مستواها الحالي لما تبقى من هذا العام، وربما العام القادم وهو المرجح، بسبب تسارع وتيرة تفشي وباء كورونا، لن يوقف النزيف في موازنات دول الخليج.
وفي الإمارات، ثاني أكبر اقتصاد في منطقة الخليج، بدأت الدولة العام 2020 بإطلاق أكبر ميزانية اتحادية في تاريخها بمقدار 61 مليار درهم (16.6 مليار دولار) بعجز صفر، إلا أن جائحة كورونا وتداعياتها الاقتصادية تتجه بالدولة إلى تسجيل أسوأ عام في تاريخها.
حتى الآن، لم تصدر الإمارات أية بيانات رسمية تظهر التأثير الحقيقي للجائحة على ميزانيتها، وآخر بيانات نشرتها حكومة الإمارات في منتصف أغسطس/آب الجاري، تتناول أداء الميزانية في الربع الأول من 2020، وهي الفترة التي سبقت تفشي الجائحة.
لكن صندوق النقد الدولي توقع في يونيو/حزيران الماضي انكماش اقتصاد الإمارات بنسبة 4.3% في 2020، وارتفاع العجز بأربعين ضعفاً عنه في 2019.
ومؤخراً ذكرت وكالة موديز للتصنيف الائتماني العالمية، أن الإمارات ستعاني من انكماش حاد، مشيرة إلى أن ديون الكيانات المرتبطة بحكومة دبي لا تزال أكثر عرضة للمخاطر الكلية بسبب حيازتها في قطاعات العقارات والنقل والسياحة.
وفي الكويت، أظهرت آخر بيانات لوزارة المالية، ارتفاع عجز الموازنة إلى 5.64 مليارات دينار (18.5 مليار دولار) في السنة المالية 2019/2020 (تنقضي بنهاية مارس/آذار)، بزيادة 69% عن السنة المالية السابقة.
ويتوقع ان يرتفع العجز إلى 14 مليار دينار (46 مليار دولار) في السنة المالية الحالية بحسب وثيقة قدمت لمجلس الأمة (البرلمان) جرى الكشف عنها في وقت سابق من أغسطس/آب الجاري.
ويبلغ الدين العام للبلاد نحو 11 مليار دولار، وقدمت الحكومة للبرلمان مشروع قانون يتيح لها اقتراض 65 مليار دولار على مدى 30 عاما، منها 17 مليار دولار في 2020.
وقال محمد الهاجري، الخبير الاقتصادي الكويتي، إن انخفاض أسعار النفط من أبرز المخاطر التي تواجه ميزانيات دول الخليج، ولا سيما أنها المصدر الرئيسي للإيرادات.
وأضاف الهاجري لـ”العربي الجديد” أن المأزق المالي الحالي لكل الدول يهدد التنمية، باعتبارها مرتبطة مباشرة بالإنفاق الحكومي المعتمد كلياً على إيرادات النفط.
وفي البحرين، التي توقع صندوق النقد الدولي أن تكون الأقرب زمنيا لاندثار ثرواتها خلال عام 2024، بلغ العجز في موازنتها خلال الأشهر الستة الأولى من العام الجاري نحو 789 مليون دينار (2.1 مليار دولار)، بزيادة 98% عن نفس الفترة من 2019. ووفقا لبيانات وزارة المالية، فإن مداخيل الحكومة تراجعت خلال نفس الفترة بنسبة 29%.
وفي مايو/أيار الماضي، كشفت مصادر مصرفية لرويترز، عن أن البحرين عينت بنوكاً دولية ومحلية من أجل الترويج لسندات دولارية (أدوات دين) لجمع سيولة مالية.
وتحتاج الدولة إلى مساعدات خليجية إضافية هذا العام، بينما جيرانها الأكثر ثراء أضحوا في عسرة، بسبب تهاوي أسعار النفط والتداعيات الاقتصادية لكورونا، واستمرار الحرب باهظة الكلفة التي تخوضها السعودية والإمارات ضد الحوثيين في اليمن فضلاً عن التوترات في منطقة الخليج وعلى رأسها حصار قطر المستمر، منذ الخامس من يونيو/حزيران 2017.
وفي عام 2018، تعهدت السعودية والإمارات والكويت بتقديم مساعدات للبحرين بقيمة 10.25 مليارات دولار على خمس سنوات من أجل تفادي أزمة مالية، مقابل إجراء إصلاحات اقتصادية تشمل خفض الدعم وتقليص الرواتب.
وأظهرت بيانات رسمية، تلقّي البحرين 4.57 مليارات دولار من الحلفاء الخليجيين، بينما أعلنت الدولة أخيراً، أنها تتوقع الحصول على مبلغ إضافي من المساعدات بقيمة 1.76 مليار دولار هذا العام. وتفتقر البحرين إلى المصادر النفطية والمالية الوفيرة التي تتمتع بها جاراتها، وماليتها العامة من بين الأضعف في المنطقة.
وقال حجاج بوخضور، الخبير في الشأن الاقتصادي الخليجي إن تراجع إيرادات النفط أصبح يحد بقوة من قدرة دول الخليج على تمويل مشاريع حيوية، مشيرا إلى أنه كان يتحتم على هذه الدول خلق بدائل خلال سنوات الوفر المالي والفوائض، تجنبها هذه المخاطر.
في مفارقة لافتة، فإن اقتصاد قطر، التي تواجه حصاراً من السعودية والإمارات والبحرين ومعها مصر منذ 2017، هو الأقل تضررا من الأزمات التي تعصف بالمنطقة.
فقد جعل التنوع في الاقتصاد القطري، خصوصا خلال السنوات الثلاث الأخيرة، مع استعدادات قطر لاستضافة مونديال 2022، وتوجهها نحو تنمية الصناعات المحلية لمواجهة الحصار الثلاثي بقيادة السعودية، الاقتصاد أكثر مرونة وقدرة على مواجهة التحديات التي فرضتها جائحة كورونا وما رافقها من تراجع في أسعار النفط.
وخلافا لباقي دول الخليج، فقد ثبتت وكالات التصنيف العالمية الثلاث تصنيفاتها الائتمانية المرتفعة لقطر مع نظرة مستقبلية مستقرة.
وفي سلطنة عمان، أظهرت البيانات الصادرة في يونيو/حزيران الماضي، عن المركز الوطني للإحصاء (حكومي)، أن السلطنة تحولت إلى تحقيق فائض في الميزانية في الأشهر الأربعة الأولى من 2020، بعد أن خفضت الإنفاق العام في ظل تراجع أسعار النفط وأزمة فيروس كورونا.
وكشفت الأرقام عن أن التخفيضات الحادة في الإنفاق العام أدت إلى فائض قدره 134.2 مليون ريال (349.48 مليون دولار)، بين يناير/ كانون الثاني وإبريل/نيسان، من عجز قدره 133.2 مليون ريال قبل عام.
ومع ذلك تواجه عمان عجزاً مالياً من بين الأكبر في المنطقة هذا العام، إذا توقع صندوق النقد الدولي أن يزيد على 16% من الناتج المحلي الإجمالي.