عجز وتخبّط وتمنيات… محاولات خجولة تدابير وحوافز معزولة عن أي حلّ شامل

من يطّلع على مشروع قانون موازنة العام 2022 ويتمعّن في المضمون، يكتشف بما لا ريب فيه أن هذا المشروع بمثابة صورة مصغّرة وأمينة لوضع وواقع السلطة التنفيذية التي سوف تتبناه؛ أي عجز وتخبط وتمنيات كما ومحاولات خجولة لإعادة توازن مفقود ورفد الخزينة بإيرادات باتت ملحّة لتجنب الإنهيار الكامل وزوال الدولة ومؤسساتها.

يفرض البحث في الموازنة وبالتالي في إصلاح المالية العامة، البحث مقدماً في مهام الدولة الأساسية. فعليها يقع واجب حماية الاقتصاد الوطني، وتأمين الحماية الإجتماعية، ونشر العلم والمعرفة، وزيادة الثروة وحسن توزيعها بشكل عادل. كذلك عليها إعادة الإعتبار الى صدقيتها وثقة المواطنين والخارج بها. هذا الأمر يُكرّس بإصلاحات تشمل إجراءات طارئة وسريعة لخفض العجز وطمأنة الدائنين وتثبيت النقد ومكافحة الفقر المتفشّي وإعادة إطلاق العجلة الإقتصادية.

من جهة ثانية، ومثال على التناقضات توصي الفذلكة بتوسيع القاعدة الضريبية وزيادة معدّل الإمتثال وإصلاح النظام الضريبي لجعله أكثر عدالة، بينما تكتفي واقعاً ببعض التدابير والإجراءات السطحية من دون اقتراح تدابير ناجعة ومفيدة مثال تعميم الرقم الضريبي وتطوير آليات التبليغ وتتبع العمليات ومكننة الإدارة ووضع الخوارزميات وآليات الحوسبة عن بعد لمعالجة البيانات الحسابيّة للمكلّفين من خلال واجهات الكترونيّة تسمح بكشف الثغرات وملاحقة المتهرّبين (artificial intelligence) والإنتقال من نظام الضرائب النوعية (scheduled taxes) – الذي يتيح للعديد من الأشخاص تفادي التصريح عن إيرادات مخفية ومستترة وغير ملحوظة في المنظومة – إلى نظام الضريبة الموحدة على الدخل؛ وذلك من خلال سلّةٍ من الإجراءات يتم اقتراحها واعتمادها بموجب قوانين خاصة ومن شأنها رفع الغطاء عن النافذين والمستفيدين.

وفي نفس الإطار الهادف إلى زيادة الواردات وتحقيق العدالة والفعالية الضريبيتين، كان يقتضي إقتراح تعديل وتطوير نظام الإعفاءات والحوافز الضريبية المعمول به راهناً وجعله أكثر عدلاً وفعالية. ومن هذا المنطلق إلغاء إعفاءات غير مجدية وغير عادلة على غرار الإعفاءت الممنوحة لمصارف الاعمال ومصارف التسليف المتوسط والطويل الاجل كما وإعفاء مؤسسات الملاحة الجوية والبحرية. بالمقابل، إستحداث إعفاءات موقتة وخاصة تساعد على النمو و/أو التوظيف وذلك، في سياق سياسة ضريبية/إقتصادية/إجتماعية متكاملة ومتقدمة يتم تنفيذها على مراحل؛ كالصناعات التحويلية أو التجميعية أو الصناعات التكنولوجية والبرمجة المعلوماتية والمشاريع الصديقة للبيئة. كما ومن المقترح إقرار حوافز مالية وضريبية تحت الباب الثالث لبعض التوظيفات المالية في القطاعات المنتجة و/أو الواعدة لتحفيز النمو.

وأخيراً وليس آخراً، تقتضي الإضاءة على عجز الموازنة المرتقب البالغ مجموعه ما يزيد عن 10 آلاف مليار ليرة لبنانية، في حال لم يصر إلى إضافة سلفة الخزينة المخصصة لمؤسسة كهرباء لبنان، أي ما نسبته 20,77% وذلك من دون احتساب كل من سلفة الخزينة المخصصة لمؤسسة كهرباء لبنان في حال تم إعطاؤها والفوائد على سندات الخزينة بالعملة الأجنبية بعد التوقف عن سداد الدين؛ ما يعني أن هذا العجز سوف يتم تمويله إما عن طريق استحداث إيرادات جديدة وبالتالي ضرائب ورسوم إضافية تفرض على كاهل المواطن وتعيق الإستثمار والنمو أو عن طريق سلفات وتمويل من مصرف لبنان من الإحتياطي القانوني وبالتالي مما تبقى من ودائع المودعين أو عن طريق طبع العملة وزيادة الكتلة النقدية البالغة 50 تريليوناً تقريباً…مما قد يفاقم التضخم وإنهيار العملة وزيادة الأسعار وإفقار المواطنين أكثر فأكثر.

هذا، ويتعين إعادة النظر في مسألة تمديد مهل تسديد رسوم وتسوية غرامات وإستفادة من حسومات وإعفاءات مترتبة على إشغال الأملاك العامة (المادة 92) للأسباب السابق ذكرها ولعدم فتح المجال لتكرار المخالفات بحجة الإستفادة الدورية من إعفاءات وتخفيضات؛ وبالتالي الإفلات من العقاب وعدم الإتعاظ وحرمان الدولة من حقوقها ومواردها.

كما يقتضي أيضاً، تحفيزاً للإيرادات المستدامة والإلتزام الضريبي، إقرار تسوية عامة وشاملة بالنسبة لجميع إيرادات الأسهم والسندات المالية الأجنبية وفوائد حسابات الإدخار التي تؤول إلى المقيمين في لبنان؛ على أن تكون مشروطة بأحد الخيارين: (i) إما إعادة جميع الرساميل إلى لبنان والإمتناع عن تحويلها من جديد إلى الخارج سحابة خمس سنوات و/أو توظيفها في استثمارات وقطاعات منتجة يتم تحديدها بمرسوم صادرعن مجلس الوزراء؛ (ii) إما تسديد على سبيل التسوية نسبة ضرائب (10 أو 15%) على كامل الذمم المالية الخارجية (رأس المال) ولمرة واحدة بالنسبة للمرحلة السابقة. ويتعين على المستفيدين من هذه التسوية بعدها أن يبادروا إلى تنفيذ موجباتهم عملاً بأحكام المادة 77 وما يليها من قانون ضريبة الدخل؛ مما يجنب التكليف بالضريبة وغرامتي التحقق والتحصيل على خمس أو سبع سنوات (للمكتومين) إلى الوراء.

بالرغم من صوابية الإجراء وضروراته القصوى على كافة الصعد إلا أن هذا الإجراء يبقى سطحياً وغير ذي تأثير في الظروف الراهنة من التضخم المفرط وعدم الإستقرار؛ وبالتالي كان يقتضي إجراء إصلاح جذري في هذا الميدان واستبدال نظام التنزيلات الحالي القديم وغير الفعّال وغير العادل بنظام جديد يعتمد على النصاب العائلي (Quotient familial) وهو نظام يهدف إلى تخفيف الضرائب على الإيرادات تبعاً للأعباء العائلة الفعلية.

لقد تضمن مشروع قانون موازنة سنة 2022 في العديد من مواده تدابير آيلة إلى تفعيل الإلتزام الضريبي مثال التصريح وإقتطاع الضريبة عن غير المقيمين والحؤول دون إمكانية إستعمال الشركات العقارية أو الأوف شور لتجنب عبء الضرائب كما واشتراط موافقة الإدارة الضريبية على عدد من المعاملات العقارية قبل تنفيذها أو الإلزام بالتصريح رغم الإستفادة من إعفاءات دائمة وإشراك البلديات في عمليات المسح والإستقصاء. يقتضي التحذير هنا من الإستسهال في فرض ضرائب غير مباشرة تعمق الهوة مع الضرائب المباشرة وتطعن بالعدالة والمساواة الضريبيتين.

إن التعديلات المزمع إدخالها على قانون ضريبة الأملاك المبنية لجهة تحديد مهلة قصوى للشغور بحيث تستحق الضريبة بعد إنقضاء المهلة وإن بقي البناء شاغراً، جديرة بالتقدير والتنويه هي أيضاً؛ وهي كفيلة بمعالجة موضوع السكن لحث المالكين على البيع أو التأجير وتحريك بالتالي السوق العقارية وإيجاد مسكن لمن هو بحاجة.

إن العديد من المواد الواردة ضمن هذا الفصل كما وبعض المواد في الفصل الثالث تندرج ضمن ما يُعرف بفرسان الموازنة “les cavaliers budgétaires”؛ أي مبدأ التخصص ضمن قواعد الموازنة الجوهرية الذي يعني عدم تضمين الموازنة نصوصاً تشريعية لا تمت إلى الموازنة بصلة، بما معناه أحكام وقوانين لا تتعلق مباشرة بتنفيذ الموازنة، كون قانون الموازنة يشكل وحدة كاملة منسجمة. وكما بات معروفاً فإن الحكومات اللبنانية المتعاقبة قد اعتادت خلال العقدين الماضيين إدراج نصوص عديدة في قانون الموازنة يقتضي أن تكون موضوع قوانين مستقلة، محاولةً بذلك الإستفادة من حجم البنود والإعتمادات التي تستوجب الدرس والنقاش كما والضجيج الإعلامي الذي يرافق التصويت على الموازنة لتفادي ردود الفعل السلبية لدى المواطنين والنواب وتسهيل موافقتهم على هذه النصوص واستيعابهم لها…أي تمريرها خلسةً.

التدابير الآيلة إلى التحكم بالودائع المصرفية وتثبيت الخسائر: لقد نصت المادة 115 من مشروع قانون الموازنة على أن «يُعتمد التوطين لدى المصارف بصورة إلزامية من أجل دفع رواتب المستخدمين في المؤسسات وسائر التعويضات والبدلات مهما كانت تسميتها في المؤسسات والشركات كافة، وكذلك تلك التي تدفع للمدراء وأعضاء مجالس الإدارة. ما لم يتعارض ذلك مع أي نصوص قانونية دولية (وكذا)». مما لا شك فيه أن هذا التدبير لو أتى في ظروف طبيعية لكان موضع تقدير وتنويه لكونه يندرج في ما يسمى الشمول المالي (Financial Inclusion) الذي من شأنه المساعدة على مكافحة الفساد الذي يستعمل القنوات غير الرسمية وذلك، من خلال تحفيز إجراءات العناية الواجبة (Due Diligence) وتحديد صاحب الحق الاقتصادي ومصدر الأموال مع مراقبة العمليات بشكل مستمر والتبليغ في حال نشأ شك حول قيام أحد العملاء بمحاولة تبييض أموال أو تمويل إرهاب.

المادة 117 تمهد لتبديد مصالح ومداخيل الدولة المنتجة للتعويض عن الخسائر بدلاً من تطويرها وتطبيق الشفافية والحوكمة الرشيدة بخصوصها بهدف تخصيص إيراداتها لتحقيق فائض أولي في الموازنة وتأمين نفقات إستثمارية (بنى تحتية، نقل مشترك، وإلخ.) وإجتماعية (طبابة، تعليم، تقاعد، ضمان بطالة، وكذا). أما المادة 133 فسوف تزيد سعر صرف إستنسابي على أسعار الصرف وتعمّق الأزمة والإنهيار بدلاً من حلّهما.

على ضوء كل ما تقدم وما يعتري مشروع القانون من شوائب وخلل بنيوي، بات من الضروري البحث في إصلاح المالية العامة الذي يفرض مقدماً البحث في مهام الدولة الأساسية من حيث حماية الاقتصاد الوطني وتأمين الحماية الإجتماعية ونشر العلم والمعرفة وزيادة الثروة وحسن توزيعها بشكل عادل.

مصدرنداء الوطن - كريم ضاهر
المادة السابقةأصول الدولة للبيع؟
المقالة القادمة1.5 مليار دولار من جيوب الناس سنوياً فوق المقبول تنافسياً