تباطأت وتيرة الاجتماعات بين الوفد اللبناني المفاوض وصندوق النقد الدولي. فبعدما كانت تحدّد مع انطلاق المفاوضات بـ 3 مرات اسبوعياً أصبحت الفترة التي تفصل بين الاجتماع والآخر تقارب العشرة أيام. إن كان هذا لا يعني نهاية المباحثات فإنه على الأكيد زاد من تفاقم الأزمة وقلّل الخيارات الداخلية المتاحة.
في الاول من تموز وصلت المفاوضات مع صندوق النقد الدولي إلى حائط مسدود. وفد الصندوق أبدى امتعاضه في الجلسة السادسة عشرة من غياب الجدية في تنفيذ الخطة المالية والمباشرة بتطبيق الإصلاحات المطلوبة. وقد سُرّب عن رئيس الوفد “مارتين كريسولا” قوله انه “لا معنى للمفاوضات التي نجريها إن لم تكن هناك جدية”. إلا ان المفاوضات عادت واستُؤنفت في العاشر من الحالي في اجتماع حمل الرقم 17، خصص للبحث في الاجراءات التي اتخذتها الحكومة اللبنانية في ما يتعلق بإصلاح قطاع الكهرباء، واتفق على استكمال المشاورات.
لا نملك رفاهية الوقت
المدة الزمنية التي تتطلبها المفاوضات مع صندوق النقد الدولي قد تتراوح في العادة بين 3 أشهر وسنة. وبحسب التجارب مع الدول المتعثرة فإن “الصندوق” لا يكلّ ولا يتعب من البحث في الخطط والاقتراحات، ويسير حتى النهاية. إلا ان لبنان وعلى عكس “الصندوق” لا يملك رفاهية الوقت. فالاحتياطي من العملات الأجنبية في مصرف لبنان الذي يسكّن وجع الأزمة، لن يصمد طويلاً. وهو بحسب أحد الخبراء “سيستنفد في غضون أشهر قليلة. عندها ستفقد السلطة القدرة على دعم الطعام والدواء ويسقط البلد في المجهول”. وعليه فإن “الإسراع في التوصل إلى اتفاق سيؤمن جرعة سريعة من الدعم المالي تصل إلى حدود 870 مليون دولار في السنة الأولى، تجنب لبنان تجرع كأس الانهيار المرة”.
المشكلة في المنهجية
“حالة التخبط التي يقع فيها الجانب اللبناني لن تتوقف إلا في حالتين: البدء بالاصلاحات وتغيير المنهجية في مقاربة الخسائر المحققة”، يقول الخبير الاقتصادي رازي الحاج. فالمشكلة لا تتعلق برقم الخسائر إن كان 241 الف مليار ليرة او 81 الفاً. بل بالطريقة التي احتسبت على أساسها هذه الخسائر، والطريقة التي تؤمن الخروج من المأزق النقدي. وبحسب الحاج فان “طلب صندوق النقد الدولي من الجهة اللبنانية عدم تقليل الخسائر ليس اعتباطياً إنما هو موضوعي. فتحرير سعر الصرف سيقلّص الخسائر تلقائياً، وخصوصاً على السندات الحكومية بالليرة اللبنانية”.
فلنفترض ان حجم الدين الحكومي بالليرة اللبنانية يعادل 58 مليار دولار، فاذا احتسبناه على سعر صرف 4 آلاف ليرة تنخفض قيمة الدين إلى 21 مليار دولار. من هنا فان إصرار الصندوق على عدم تقليص الخسائر مردّه إلى الإنخفاض الطبيعي في الدين عند تحرير سعر صرف العملة. وإذا قررنا المضي بارقام لجنة تقصي الحقائق النيابية المحددة بـ 71 الف مليار ليرة فانه لن يعود هناك أي خسائر عند تحرير سعر الصرف او أقله تخفيضه إلى 4000 ليرة لبنانية. فالـ 71 الف مليار تساوي 47 مليار دولار على سعر 1500 بينما تساوي 11 مليار دولار فقط على سعر صرف 4000 ليرة.
إعادة هيكلة المصارف أولوية
في المقابل فان الاتفاق على المنهجية الصحيحة يتطلب الدخول جدياً في عملية إعادة هيكلة القطاع المصرفي. إذ ان المصارف التي تحمل النسبة الأكبر من الدين على الدولة ملزمة بسداد مطلوباتها للمودعين بالدولار الاميركي. خصوصاً ان نسبة الدولرة تبلغ أكثر من 70 في المئة. وعليه فان الكثير من المصارف ستكون عاجزة عن تكوين رساميلها. وهو ما يحتم عليها اعادة الهيكلة سواء بالتصفية أو الاندماج أو الاستحواذ. وهذه الطريقة تتطلب “وجود مصارف حاضنة وسليمة تؤمن الدخول في العملية من دون خضات تعرض السوق الى الاهتزاز”، يقول الحاج.
المشكلة ان لبنان لم يعط الصندوق أي إشارة ايجابية منذ تاريخ بدء المفاوضات. فلم تُحترم منهجية تحديد الخسائر النقدية ولم توضع الاصلاحات على السكة، ولم يتم الدخول بعد في اعادة هيكلة المصارف بشكل جدي. وهو ما لا يرضي صندوق النقد. فـ “الصندوق يحرص على تأمين الدولة التي يدخل في برنامج معها متطلبات النهوض وكل ما يلزم من اصلاحات لكي يكون في مقدرتها سداد الدين” يعتبرالحاج. “وعليه فان الشروط التي يطلبها صندوق النقد الدولي من تصفير العجز في الموازنة وتحقيق نمو مستدام على مدار العشر سنوات وتحقيق الموازنات فائضاً أولياً، تساهم في استرجاع الصندوق قروضه من جهة، ومن جهة ثانية تؤدي إلى تنفيذ الاصلاحات الضرورية التي تصب في النهاية في مصلحة الوطن والمواطن”.
المفاوضات تراوح مكانها
بعد 4 أشهر من المراوحة أيقن مجلس الوزراء بان التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي يتطلب المرور بالمجلس النيابي حكماً للتوقيع على الاتفاقية. ولم يعد للأخير من مفر إلا باقرار التشريعات الاصلاحية كقانون المشتريات العامة والكابيتال كونترول والاستقلال القضائي والهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء. وبالتالي فان لم يتركز العمل اليوم من وجهة نظر الحاج على تقريب وجهات النظر والخروج بمقاربة منهجية موحدة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، فان ليس التفاوض مع صندوق النقد الدولي سيكون معرضاً للخطر فقط، انما وضع البلد ككل. فالمقاربة النقدية المعتمدة اليوم تركز على احتساب الخسائر في حين ان المطلوب هو اعادة بناء الاقتصاد. وما يجري يشبه إلى حد ما اختلاف طاقم الاسعاف على عدد الرصاصات في جسم المصاب، في حين ان المطلوب إيقاف النزيف قبل ان يموت المريض.
يتفق الجميع على ان الجلسات السبع عشرة مع صندوق النقد الدولي كانت مضيعة للوقت وان المطلوب اليوم الجلوس الى طاولة المفاوضات بعدة جديدة أكثر اقناعاً وفعالية. فهل نشهد تحولاً في المشاورات؟ أم ان سيف الانهيار سيسبق عذل المفاوضات؟