سمح الفيول العراقي منذ بدء تدفقه إلى لبنان في أيلول من العام 2021 بتطويق ولو جزء من نقمة اللبنانيين التراكمية على التقنين القاسي للكهرباء، وذلك بعدما سرت آلية إتفاقية استقدامه المجددة مرتين حتى أواخر العام 2024، بما عوّلت عليه السلطة اللبنانية من ليونة لدى الجانب العراقي، ترجمها حتى الآن بعدم تقاضيه ثمن نفطه المصدر إلى لبنان، والإستمرار في وضع ثقته بالضمانات المالية الأولى التي قدمت له، من خلال حساب إعتماد مستندي غير معزز، فتح في مصرف لبنان لصالح البنك المركزي العراقي، نيابة عن شركة تسويق النفط العراقية SOMO الموردة للنفط، وتحوّل وديعة مصرفية. غير أنّ «تقريش» هذا الحساب يتطلب وفاء لبنان بواجباته تجاه العقد، وبالتالي تسديد ثمن النفط بخدمات وسلع، يضمن مصرف لبنان أوامر الدفع لمن يقدمها، وبالعملة اللبنانية.
منذ البداية، كان واضحاً أنّ موافقة العراق على هذه الآلية شكلت جزءاً من قرار سياسي بدعم لبنان في أزمته. الأمر الذي حدا بالبعض للتشكيك حتى بنيّات لبنان في تسديد ثمن الفيول العراقي الذي أنقذ البلد من العتمة الشاملة… إلى أن برزت أولى الخطوات العملية في تنفيذ «برنامج التبادل التجاري – النفط العراقي مقابل المنتجات والخدمات اللبنانية»، من خلال قرار إتخذه مجلس الوزراء في شهر تشرين الثاني من العام 2023، كلّف خلالها المؤسسة العامة لتشجيع الاستثمار في لبنان «إيدال»، بالمهمة بما تتضمنه من إنشاء منصة لعرض المنتجات اللبنانية وطلبها.
التمويل غير كاف
وعليه إنطلق مدير عام مؤسسة «ايدال» مازن سويدان ونائبه علاء حمية بهذه المهمة من خلال لقاءات عقدت في العراق، وأثمرت وفقاً لسويدان وضع إطار بروتوكول للتعاون، سيشرك المعنيين الرسميين في البلدين إلى جانب القطاع الخاص في تطبيقه. إلّا أن هذا الأمر لا يزال ينتظر إنشاء منصة التبادل أولاً.
يكشف سويدان لـ»نداء الوطن» «أن إنشاء المنصة لا يزال ينتظر التمويل المناسب»، رابطاً التأخير في تأمين التمويل ببطء عجلة الأمور في لبنان، وبكون وزارة المالية لا تقوم حالياً سوى بتحويل رواتب الموظفين.
ما يتبين من كلام سويدان، أنّ التمويل المطلوب يحمل في طياته مشروع إخراج مؤسسة «إيدال» من التداعيات التي خلفتها الأزمة اللبنانية الطويلة عليها. يقول «إيدال دُمرت خلال الأزمة، عدد كبير من موظفيها غادروا، أوقف المشروع الذي كان ممولاً من الـ UNDP، وميزانيتنا تلاشت». وإذ يرى أن تنفيذ برنامج التبادل يتطلب الخروج من هذا الواقع، يلفت إلى «أننا طالبنا بمبلغ يسمح لنا بالوقوف على قدمينا مجدداً، لنشغّل المنصة بما نملكه من خبرات ومعالجات».
يتحفظ سويدان في المقابل عن ذكر المبلغ المقدر لإنشاء المنصة، ويعتبر أنه بعهدة رئاسة الحكومة. وإذ يتحدث عن مفاوضات متقدمة تجري للإستحصال على الإعتمادات المطلوبة، يبدو أن هذا الامر مدار خلاف في تحديد القيمة التي ستنطلق منها المنصة.
وفقاً للمعلومات فإن المبلغ الذي أقرته رئاسة المجلس لا يتعدى المئتي ألف دولار، خصوصاً أن مهمة المنصة محددة، ومحصورة ببلد واحد. والهدف من إنشائها مراعاة الشفافية، التي تبدو مطلباً حتى في تبرير الأكلاف الموضوعة لإنشاء المنصة. وبالتالي لا داعي برأي متابعين لتكبير الحجر، والمطلوب تحديد أكلاف واقعية.
إلا ان سويدان يرى أن هذا المبلغ قد لا يكفي لمصاريف المبنى والمازوت. ويقول «نحن من أصرينا على المنصة لضمان الشفافية. وخطتنا الإستعانة بشركات مراقبة عالمية، تضمن الجودة في الخدمات والمنتجات المصدرة وتحرص على أن تكون أكلافها المسددة عادلة لها»
عراقيل على الطريق
ولكن تمويل المنصة على ما يتبيّن ليس العقبة الوحيدة أمام السير بهذه الآلية، بل ثمة عراقيل أخرى، يمكن إستخلاصها على الشكل التالي:
أولاً: في ما يتعلق بآلية تسديد مستحقات مقدمي الخدمات مقابل النفط العراقي، نصت الإتفاقية على أن يتم ذلك من رصيد يوضع في حساب البنك المركزي العراقي المفتوح لغرض تنفيذ هذا الاتفاق لدى مصرف لبنان، على أن يضمن مصرف لبنان تقاضي الجهات اللبنانية التي تقدم الخدمات مستحقاتها نقدا بالعملة المحلية. هذه معادلة رابحة وفقاً لسويدان «لأنها مقابل النفط العراقي، تبقي الكتلة النقدية التي ستسدد من خلالها كلفة البضائع والمنتجات والخدمات، في البلد، وبالتالي هذا أهم مشروع إقتصادي ينفذ خلال السنوات الأخيرة، بظل غياب الحلول الماكرو إقتصادية.» إلا أن المعضلة تكمن وفق المتابعين، في أنّ مصرف لبنان وفقاً للمعلومات حدد سقف الإنفاق من الرصيد المتجمّع للعراق لديه بما قيمته عشرة ملايين دولار شهرياً، وأبلغ المعنيين بذلك، معللاً السبب بتجنب الوقوع في مشكلة تضخم العملة اللبنانية مجدداً في الأسواق، ما من شأنه أن يرفع الطلب على الدولار وبالتالي إرتفاع سعره مجدداً. وهذا ما يطرح السؤال عن عدد السنوات التي سيستغرقها تسديد الديون وفقاً لهذه السقوف المحددة.
ويبدو أن هذه العقبة هي مدار نقاش مطول أيضاً، يكشف عنه سويدان بشكل غير مباشر معتبراً كخبير إقتصادي كما يقول، أنّ مصرف لبنان لا يمكنه ان يستمر في إعتماد سياسة تثبيت الدولار، خصوصاً بعدما تبيّن أنّ هذا الأمر لم يخدم الإقتصاد والليرة في السنوات الماضية.
ثانياً: في ما يتعلق بممر سوريا الإلزامي للبضائع والمنتجات المتوجهة إلى العراق، يبدو أن هناك عقبات لم تزل قائمة بسبب عراقيل الترانزيت البري التي فرضت منذ نشوء الحرب في سوريا، علماً أنّ لدى إيدال كما يقول سويدان «بعض الافكار التي نتحفظ عن كشفها، ولكنها متاحة عبر مقدمي الخدمات اللوجستيين الذين يمكن ان يساعدونا لتخطي هذ الواقع»
ثالثاً: في ما يتعلق بقدرة لبنان على منافسة سوقين بارزين فتحا على العراق بغياب المنتجات اللبنانية، أي سوقي إيران وتركيا. وهذا ما سيحتم البحث عن ميزة تفاضلية للمنتجات اللبنانية كي تتمكن من منافستهما بمنتجاتها، علماً أنّ البحث جار حول مزيج من الخدمات المباشرة أو المعرفية التي يطلب العراق الإستعانة بها، وخصوصاً على الصعيدين الإستشفائي والتربوي، إذ أن العراق هو من أكثر البلدان التي يقبل شعبها على مستشفيات لبنان وجامعاته، وهذا ما يشكل عنصر قوة بالنسبة للبنان وفقاً لسويدان. بالإضافة إلى ما برز أخيراً من إقبال على قطاع المنتجات الطبية والأدوية، إلى جانب المنتجات الغذائية والزراعة. وإلى بند تتضمنه مسودة البروتوكول الذي بدأ يبحث بين الطرفين أيضاً يتعلق بالإستعانة بخبرات لبنان في ما يتعلق بإقتصاد المعرفة، والذي يتضمن الإستعانة بإستشاريين على عدة أصعدة، ومن بينهم إستشاريون في القطاع المصرفي والمالي الذي لا يزال في العراق قطاعاً يدار على المستوى الرسمي.
يقر سويدان بأنّ مهمة إيدال ستواجه الكثير من العقبات، إلا أنّ جميعها قابل للحل برأيه وفقاً لخارطة طريق توضع لتنفيذ البرنامج. ولكن لا يمكن لأي خطوة أن تتخذ من دون إنشاء المنصة أولاً. وإذ يقر بأننا «بلد مفلس، لا رغبة لدى المسؤولين فيه بالتوسع بالإنفاق». يحذر «من أن الإقتصاد لن يقلّع من دون توسيع الإنفاق». ويرى أنه «إذا لم تنشأ المنصة، سنواجه فضيحة أخرى. فصوفتنا اليوم حمراء أمام المجتمع الدولي والمؤسسات المانحة، وبلدان مجلس التعاون الخليجي، ولم يعد أحد يقبل بتسليفنا سوى العراق، وإذا لم نمش بآلية تسديد مستحقاته مقابل النفط، فهذا يعني أننا قررنا إطلاق الرصاصة على مصداقية لبنان حيال التزاماته».