لم تشهد إدارة المناقصات في التفتيش المركزي إتمام عملية تقييم عروض مزايدة تلزيم السوق الحرة في مطار بيروت، والتي كانت مقرّرة ليوم الخميس 14 تموز، وذلك بسبب وجود عارض وحيد، هو تحالف يشارك تحت إسم شركة “باك” PAC، الأمر الذي يلغي شرط المنافسة، ما أدّى إلى تأجيل العملية. علماً أن أربع شركات كانت قد سحبت دفتر الشروط من إدارة المناقصات، تمهيداً للمشاركة.
وهذا التأجيل ليس عملية روتينية بسيطة، لأن أسبابه ليست “بريئة”. فما رافقه يدلّ على نيّات مبيّتة ورغبة في استبدال مستفيد بآخر. وتبعاً للتركيبة اللبنانية، حَضَرَت اللغة الطائفية، فقيل أن ثمّة مَن لا يريد لمسيحي أن يستثمر في السوق الحرة. وبما أن الحقيقة في مكان آخر، على أحدهم دفع الثمن، وهو الخزينة العامة، وتالياً اللبنانيين. فتعطيل المزايدة يرتّب على الدولة خسائر مالية ضخمة، وبالدولار النقدي.
صراع على الاستثمار
في العام 2017 فاز تحالف باك الذي يمثّله لبنانياً شركة فينيسيا التي يملكها رجل الأعمال محمد زيدان، بمزايدة استثمار السوق الحرة، بمجمل قيمة تشغيلية سنوية وصلت إلى 101 مليون دولار، مقسّمة بين قيمة مباشرة هي 74 مليون دولار (111 مليار ليرة كما ينص دفتر الشروط) يضاف إليها علاوات عن كل راكب قادم عبر المطار، تصل قيمتها إلى نحو 27 مليون دولار.
والفوز جاء على حساب تحالف “وورلد ديوتي فري غروب” World Duty free Group الذي استبعد بعد تقديمه شهادة أيزو لشركة أجنبية مختلفة عن الشركة الأساسية المعنية بالمزايدة والتشغيل، وهو مبدأ مخالف لدفتر الشروط. لكن الجهة اللبنانية “المتضررة” من الاستبعاد، رفعت “مظلوميتها” إلى القضاء، ليأتي قرار مجلس شورى الدولة بصحة قرار إدارة المناقصات وصحة تلزيم شركة باك.
واصلت الشركة الرابحة عملها. وقُبَيلَ انتهاء مدة العقد، “تنبّهَ” مجلس شورى الدولة إلى “المظلومية”، فأقرَّ في شهر أيار الفائت، إبطال المزايدة وتحميل إدارة المناقصات المسؤولية.
الاستيقاظ بعد خمس سنوات ليس صدفة، إذ “ثمّة مَن يريد استبدال مستثمر بآخر. وبغضّ النظر عن الشبهات التي تحوم حول مخالفات تلزيم تحالف باك والدعم الذي يحصل عليه من أحد رؤوساء الحكومات السابقين، إلاّ أن صدور قرار مخالف لقرارات سابقة من الجهة ذاتها، هو أمر مريب، وخصوصاً بعد مرور خمس سنوات”. تقول مصادر متابعة للملف. وتضيف في حديث لـ”المدن”، أن ما يثير الريبة أكثر، هو استعمال غطاء طائفي “فالجهة السياسية التي تقود عملية الدفاع عن التحالف المعترض، والتي ترفع سقف التحدي ضد إدارة المناقصات، تروّج لمقولة أن لا أحد يريد للمسيحيين الاستثمار في السوق الحرة. والقصد من وراء هذا الترويج التذكير بأن المستثمر الحالي المستفيد، ومَن يدعمه أو يستفيد عبره، هما رجلان مسلمان”. وهذا الترويج، تقوم به الجهة نفسها التي عرقلت المباشرة بتعيين مأموري الأحراج بحجّة غلبة عدد المسلمين على المسيحيين بين المتبارين الفائزين!
خسائر على الخزينة
تلفت المصادر النظر إلى أن عدم إجراء تقييم العروض “يعني عودة ملف التلزيم إلى وزارة الأشغال العامة والنقل. وفي ظل إضراب موظفي الدولة، ووضع البلاد الصعب، سيحافظ تحالف باك على مهامه تحت عنوان تسيير المرفق العام”. لكن تضمين قرار شورى الدولة إلزامية “إعادة الوضع على ما هو عليه قبل مزايدة العام 2017، يعني إعطاء تحالفيّ باك وورلد ديوتي فري غروب، تعويضات مالية بالدولار النقدي”.
عودة صيغة التلزيم إلى ما قبل العام 2017 يعني “إعادة الدولة مبلغ لا يقلّ عن 700 مليون دولار، موزّعة بين فارق رفع القيمة التشغيلية في مزايدة العام 2017 من 15 مليون دولار إلى 74 مليون دولار (لصالح شركة باك) وبين تعويضات للشركة الخاسرة”.
والجدير ذكره، أن عدم إجراء المناقصة جاء ظاهرياً بسبب عدم وجود عارضين منافسين، لكن جوهرياً، تخوّفت الشركات من قرار شورى الدولة، إذ كيف يمكن الوثوق بقضاء يغيّر قراراته بعد 5 سنوات؟ وهو القضاء نفسه الذي ستحتكم إليه أي شركة منافسة ترفع مظلوميّتها إليه.
تهديد مزدوج
التيار السياسي الذي يقود عرقلة التلزيم، يريد توجيه تهديد مزدوج، للدولة من جهة ولمحمد زيدان من جهة أخرى. وتهديد الدولة يتم عبر تذكير وزارة المالية بأن لا دولارات لديها لتغطية التعويضات المستحقة، وأي حل يمكن الوصول إليه مع مصرف لبنان لتأمين الدولارات، إنما هو حلّ على حساب الناس، وسيزيد سخطهم على الوزارة والمصرف المركزي. كما أن تهديد الدولة يتم عبر كسر هيبة إدارة المناقصات والتشكيك بمصداقيتها كمرجع قانوني لإجراء المناقصات، وهو نهج ظهر بوضوح مع تلزيمات وزارة الطاقة. وإخراج إدارة المناقصات من المعادلة، يتيح للتيار المستفيد، العودة إلى صيغة الاتفاق بالتراضي، وهي الصيغة التي استفاد منها زيدان للتربّع على عرش السوق الحرة منذ منتصف التسعينيات حتى العام 2017.
الوجه الآخر للتهديد، يقول لزيدان بصورة غير مباشرة: نريد عمولتنا، أو سنمضي بالضغط إلى أن يتم تلزيم شركة أخرى. والتلزيم الجديد يعني إخراج زيدان من المطار نهائياً، وربما يعني أيضاً فتح ملف التلزيم السابق مع ما يحمله من إخفاء للأرباح الحقيقية ولما ضاع على الخزينة من عائدات مستحقة فيما لو كان التلزيم شفافاً. فضلاً عن جرّ عدد من وزراء الأشغال السابقين إلى مساءلات واستجوابات. ولتفادي السيناريوهات الصعبة، قد لا يجد زيدان سوى القبول بالأمر الواقع، لقاء تسييره المرفق العام إلى حين إيجاد مخرج مناسب للأطراف المتخاصمة.