بيروت «من دون مرفأ» منذ أكثر من عام، أو بمرفأ «بدائي» يعمل بنحو 30 في المئة من قدرته التشغيلية، ما حوّله من أهم مرافئ شرق المتوسط إلى مرفأ هامشي شبه عاطل من العمل. القائمون على الأعمال في إدارة المرفأ يتحدثون عن خسائر جسيمة نتيجة بطء محطة الحاويات والأعطال التي طرأت على الرافعات من دون قدرة على إصلاحها في غياب الدولار النقدي. ويشير بعضهم إلى «تعمّد» الشركة المشغلّة للمحطة (BCTC) عدم إصلاح الرافعات، ببساطة لأن عقدها انتهى منذ أكثر من عام، ودفتر شروط المناقصة الجديدة بات شبه جاهز. لذا فضّلت الشركة، على ما تشير مصادر المرفأ، «وقف عمل الرافعات بسبب مبلغ لا يتجاوز ألف دولار، من دون أن تستجيب لطلب الإدارة تقديم تقرير رسمي بالمبلغ المطلوب لإعادة إصلاحها. وقد تبيّن أن في مستودعات الشركة في سنّ الفيل قطع غيار لتبديل تلك المعطّلة، بخلاف ما صرّحت به الشركة».
ومعلوم أن مسؤولين في شركة CMA CGM الفرنسية رافقوا ماكرون في زيارته الثانية إلى بيروت بعد انفجار المرفأ. وتحدث المدير الإقليمي للشركة جو دقاق، يومها، عن «مشروع متكامل» من ثلاث مراحل لإعادة إعمار المرفأ وتوسيعه وتطويره إلى «مرفأ ذكي». وتضع الشركة الفرنسية التي حصلت على امتياز تشغيل محطة الحاويات في طرابلس حتى عام 2041، نصب عينيها تشغيل محطة الحاويات في مرفأ بيروت أيضاً. كما سبق أن عرض دقاق مشروع إعادة بناء الأحواض والمخازن المدمرة جراء الانفجار بقيمة تراوح بين 400 و600 مليون دولار، بعدما كانت مجموعة شركات ألمانية قد تقدمت بمخطط للاستحواذ على المرفأ لمدة 30 عاماً، في إطار التنافس الأوروبي للاستحواذ على المرفق الحيوي.
الوفود الفرنسية تحصر زياراتها بعروض لوضع دراسات من أجل التعاون. ليست دراسة معالجة الردم والأنقاض أول الغيث، فقد سبقها عرض بإجراء دراسة حول تركيب ألواح للطاقة الشمسية بقيمة 350 ألف يورو بتمويل من الحكومة الفرنسية. وعلى المنوال نفسه، يزور المسؤولون الفرنسيون وزير الأشغال العامة والنقل علي حمية. فقبل 3 أسابيع، زارته سفيرة فرنسا آن غريو مع وفد من الخبراء المختصين بإعداد دراسات المشاريع وآلية تمويلها، وتحدثت عن مشاريع تشمل مرافئ طرابلس وبيروت وصيدا. كما اقترحت الاستعانة بالفريق الذي رافقها للقيام بدراسة إضافية من أجل «إعادة إعمار مرفأ بيروت ونظام إدارته».
وتشير المصادر إلى أن البنك الدولي تقدّم، هو الآخر، باقتراح «نموذجي» يقضي بنقل مرفأ بيروت إلى منطقة أخرى، لأن وجوده في وسط بيروت لا يتناسب والمناطق السكنية المحيطة به، كما أنه «يتسبب في إضفاء بشاعة على المدينة». ويلتقي هذا الاقتراح مع مشروع ألماني قُدّم إلى حكومة الرئيس حسان دياب، لإقامة مدينة صغيرة نموذجية شبيهة بـ«سوليدير»، على أن يخصص القسم الشرقي لمحطة الحاويات التي ستمتد إلى ما بعد مكب النفايات في برج حمود. تبع ذلك، سعي ألماني لإيجاد موطئ قدم في المرفأ عبر شركة «كومبي ليفت» التي تولت نقل المواد الخطرة من مرفأ بيروت وتعمل اليوم على دراسات مشتركة مع الشركات الفرنسية.
كذلك، زار وفد روسي المرفأ أخيراً لاستطلاع الأوضاع من دون أن يقدّم أي مشروع. كما أبدت شركات صينية، بحسب مصادر في إدارة المرفأ، اهتماماً بمشروع إعادة الإعمار، شأنها شأن الأتراك والهولنديين، على أن الأمر لم يتخط إطار «إعلان النوايا». وأكد وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان خلال زيارته للبنان الأسبوع الماضي «استعداداً كاملاً لإعادة ترميم مرفأ بيروت في حال طلب الجانب اللبناني هذا الأمر».
ولأنه لم يبق أحد إلا و«بلّ» يده بالمرفأ، قدم نقيب المقاولين مارون الحلو ومؤسس محطتي الحاويات في المرفأ أنطوان عماطوري مشروعاً مشتركاً إلى مصلحة الاستثمار في المرفأ يقضي بإعادة إعماره من مدخوله على ثلاث سنوات واصفين الأمر بـ«المجازفة»! واقترح الحلو – عماطوري تحرير 500 ألف متر مربع من أراضي المرفأ المحاذية لسوليدير لبيعها.
كل تلك العروض لا يمكن أن تسلك المنحى العملي من دون ضوء أخضر أميركي، سبق لمساعد وزير الخارجية السابق لشؤون الشرق الأدنى ديفيد شينكر أن أوضح خطوطه الرئيسية في تقرير نشره معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى في نيسان الماضي. وأساسه أن «للولايات المتحدة شرطاً لا غنى عنه لتحقيق إعادة الإعمار يرتبط بموافقة لبنان مسبقاً على مراقبة مستقلة للميناء الجديد من أجل ضمان ألا يتحول مجدداً إلى معبر لحزب الله لتهريب عتاد عسكري وفردي» والأهم في ذلك كله، هو «ضرورة إصرار أميركا بالتنسيق مع الأوروبيين على ربط المساعدات غير الإنسانية للمرفأ بالإصلاحات والشروط المطلوبة». وطالما أن هذه الشروط المطلوبة من صندوق النقد وواشنطن غير متوافرة حالياً، سيبقى مرفأ بيروت يرزح تحت الردم حتى إشعار آخر.