عقد الاقتراض الحكومي: الهروب من السياسة النقديّة

تهرّب رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي يوم أول أمس الثلاثاء من إقرار مرسوم مشروع قانون خاص، للسماح بالحكومة بالاقتراض بالعملات الأجنبيّة من مصرف لبنان. إشكاليّة عدم توفّر الإجماع داخل الحكومة، عالجها ميقاتي برمي الكرة في ملعب المجلس النيابي، عبر اللجوء إلى فكرة الطلب من مجموعة من النوّاب تقديم مشروع القانون من داخل المجلس. وكما كان متوقّعًا، أثارت مناورة ميقاتي حفيظة رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي، أو هذا ما سرّبه برّي على الأقل، بذريعة أنّه يفضّل أن تتحمّل الحكومة مسؤوليّة المقترح. وبين ميقاتي وبرّي، تشير المصادر إلى أنّ المشكلة باتت في مكان آخر كليًا. إذ لا يوجد حتّى اللحظة ما يؤكّد توفّر النصاب النيابي للجلسة التي يفترض أن تقر مشروع القانون.

كل هذا المشهد المرتبك، أتى تفاعلًا مع الشروط التي وضعها نوّاب حاكم مصرف لبنان، الذين اشترطوا إقرار قانون يشرّع “تمويل” الحكومة بالعملات الأجنبيّة، وبعقد استقراض خاص، بعدما بات المصرف المركزي ينفق من الاحتياطات الإلزاميّة. ومن الناحية العمليّة، ثمّة من يشير إلى أنّ نوّاب الحاكم يخلطون في حديثهم ما بين عمليّة “إقراض” الحكومة، وعمليّات القطع، بمعنى بيع الدولارات مقابل الليرات اللبنانيّة، التي يفترض أن تؤمّنها منصّة التداول بالعملات الأجنبيّة، أيًا تكن طبيعتها. بل ثمّة ما يشير إلى أنّ نوّاب الحاكم يتهرّبون من مسؤوليّة تأمين هذه الدولارات، خلال مسار توحيد أسعار الصرف، عبر الاستعاضة عنها بعمليّات “الإقراض” بالعملة الأجنبيّة، التي يحاولون فرضها على الحكومة.

اختراع “قدسيّة الاحتياطات”

“قدسيّة الاحتياطات”، أو عدم جواز المساس بالاحتياطي الإلزامي، كانت مجرّد شعار رفعه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، أيّام نكاياته مع رئيس الحكومة السابق حسّان دياب. في تلك المرحلة، لم يملك سلامة الرغبة بالتدخّل في سوق القطع، كما فعل لاحقًا وبقوّة، كما كان يعد العدّة لانسحاب سريع ومفاجئ من آليّات دعم الاستيراد. وعلى هذا النحو، بدأت الماكينة الإعلاميّة المقرّبة من الحاكم باستخدام هذه الشعارات، مستفيدة من وقعها الجذّاب للمودعين، الذين يخشون خسارة آخر ما تبقى من أموال المصارف المودعة في مصرف لبنان.

طوى سلامة لاحقًا الصفحة، وأخبرنا الحقيقة: الاحتياطي الإلزامي كان مجرّد نسبة وضعها بنفسه، بتعميم يحمل توقعه، وليس بموجب أي القانون. وعلى هذا الأساس، من يضع النسبة يحمل حق خفضها أو رفعها أو إزالتها، ما يجعل الاحتياطات الإلزاميّة مجرّد توظيفات طبيعيّة في المصرف المركزي، شأنها شأن عشرات المليارات العالقة لديه. وهذا تحديدًا ما فعله الحاكم يوم أصدر التعميم 158، وخفّض نسبة الاحتياطي، لتتمكن المصارف من استعمال جزء من أموالها لغايات تنفيذ التعميم. بشخطة قلم وضع الحاكم النسبة، وبشخطة قلم خفّضها، ولم يكن هناك ما يمنع ذلك من الناحية القانونيّة.

الذهاب إلى المادّة 76 من قانون النقد والتسليف، يؤكّد كل ما سبق. لا تشير المادّة إلى أي نسبة محددة من إجمالي الودائع الموجودة لدى المصارف، بوصفها حدًا أدنى من الاحتياطي الذي ينبغي الحفاظ عليه في مصرف لبنان. بل في واقع الأمر، تؤكّد المادّة ما قاله سلامة بعد انتهاء نكاياته (لا قبلها)، عبر إعطاء المصرف المركزي حق تحديد هذه النسبة بقرار منه، لغرض تحقيق أهداف المصرف المركزي العامّة، ومنها الحفاظ على سلامة النقد اللبناني.

وفي جميع بنود القانون، لا يوجد نص واحد يمنع تدنّي قيمة احتياطات مصرف لبنان، التي هي في جانب الموجودات من الميزانيّة، عن قيمة الاحتياطات الإلزاميّة، التي تمثّل توظيفات شأنها شأن سائر الإلتزامات بجميع العملات. ومن هذه الزاوية، حق المصارف والمودعين في أموال الاحتياطات الإلزاميّة، يوازي بقدسيّته حقّهم في سائر التوظيفات الموجودة في مصرف لبنان، ولا يوجد ما يميّز بينها في شيء.

هكذا، عقد الاستقراض هو لزوم ما يلزم، من الناحية القانونيّة، إذا كنّا نتحدّث عنها عن فكرة استعمال الاحتياطات، لغايات إدارة السياسة النقديّة. استقراض أو اقتراض الحكومة، يحتاج إلى “عقد” خاص، وبموافقة مجلس النوّاب، لكن ذلك لا ينطبق على العمليّات التي تندرج ضمن السياسة النقديّة للمصرف، ومنها تدخّله في السوق بائعًا أو شاريًا للدولار، أو بيعه الدولارات للحكومة مقابل ليرات لبنانيّة، وضمن آليّة التداول الشرعيّة. أمّا الهروب من السياسة النقديّة، وفرض استقراض الحكومة للدولارات، فحكاية أخرى!

الخلط بين الاقتراض وبيع الدولارات

كل ما سبق ذكره، لا يعني تبرير الاستمرار بتبديد دولارات الاحتياطي، على النحو الذي كان يحصل من خلال منصّة صيرفة خلال الأشهر الماضية. بل وعلى العكس تمامًا، كان المطلوب من نوّاب الحاكم الذهاب باتجاه آخر: وضع سياسة نقديّة تكفل توحيد وتعويم سعر الصرف، وبآليّة شفّافة، لكن من دون انسحاب المصرف المركزي من مهمّته الطبيعيّة في حفظ قيمة الليرة، والتدخل في سوق القطع بيعًا وشراءًا.

وهذه الآليّة، لا تفرض بالضرورة تبديد الاحتياطات على المدى البعيد، بل يمكن –وخصوصًا إذا توازت مع سائر الإصلاحات- أن تمكّن المصرف المركزي من الموازنة بين دوره في حماية قيمة الليرة، ودوره في حماية ما تبقى من ملاءة في النظام المالي (ومنها الاحتياطات). فعلى سبيل المثال، تمكّن المصرف المركزي في بعض المراحل، خلال الأشهر الماضية، من مراكمة بعض الاحتياطات الإضافيّة من خلال شراء الدولارات من السوق، رغم استعماله جزءاً من هذه الاحتياطات لتحويل رواتب موظفي القطاع العام إلى الدولار الأميركي، ورغم استعمال جزء آخر منها لتمويل السحوبات عبر التعميم 158.

في الوقت نفسه، من المفترض أن تسمح هذه الآليّة للحكومة ببيع الدولارات التي تجنيها من مرافقها العامّة بالعملة الصعبة، وشراء الدولارات التي تحتاجها لتمويل بعض النفقات بالعملات الأجنبيّة. فكما هو معلوم، لا تملك الإدارات العامّة قدرة شراء الدولارات من السوق الموازية، كحال المؤسسات الخاصّة، وهو ما يعطي المصرف المركزي صفة “مصرف الدولة” المكلّف بإجراء عمليّات القطع لحساب الدولة، بيعًا وشراءً. وهذه المهمّة، لا تتسق فقط مع دوره كمؤسسة عامّة، بل تتسق أيضًا مع دوره كضابط للسياسة النقديّة، ومنها تلك التي تتصل بماليّة الدولة.

وفي واقع الأمر، لا تحتاج الدولة اللبنانيّة اليوم إلى الاقتراض من المصرف المركزي، لتمويل إنفاقها، طالما أنّها بلغت –بفضل التقشّف المفرط- مرحلة تسجيل الفوائض في الماليّة العامّة. بل تحتاج قبل كل شيء، مصرفاً مركزياً يملك سياسة نقديّة تسمح لها بتحويل إيراداتها من الليرة اللبنانيّة إلى الدولار، عند الحاجة، وبسعر السوق الحر، ووفقًا للآليّة التي يضعها مصرف لبنان للتداول بالدولار. وهذا المشهد يستلزم طبعًا التكامل مع سائر الإصلاحات، لمعالجة الفجوة في ميزانيّة مصرف لبنان، وإعادة هيكلة الميزانيّة العامّة والدين العام.

أمّا الأهم، فهو أن كل ذلك لا يعني الإفراط في الإنفاق بالعملة الصعبة، ولا المضي بتبديد الاحتياطات من دون حسيب أو رقيب. بل وعلى العكس تمامًا، ثمّة وظيفة خاصّة لقانون الكابيتال كونترول، الذي لم يُقر بعد، والذي من المفترض أن يحدد آليّات خاصّة لضبط استعمال ما تبقى من عملة صعبة في النظام المالي، ومنها تلك الموجودة لدى مصرف لبنان. وعمليّة تقييد استعمال العملة الصعبة، يفترض أن تشمل أي عمليّة تحويل أو سحب، بما فيها تلك التي تتم لمصلحة الدولة والمستوردين، من دون أي استثناء. وما نتحدّث عنه هنا، هو إجراء طبيعي قامت به جميع الدول التي مرّت بأزمات كبيرة، ومنها الدول المعروفة باقتصادها الحر والرأسمالي.

لكل هذه الأسباب، ما يقوم به نوّاب الحاكم هو هروب من دورهم المنصوص عنه، كضابط للسياسة النقديّة. وهذا حصل حين أعلنوا رغبتهم بالانسحاب من سوق القطع تمامًا، وتعويم الليرة من دون أي تدخّل، بدل تعويمها بشكل مُدار ومنظم وفي ظل سياسة نقديّة. كما حصل حين استعاضوا عن دورهم في إجراء عمليّات القطع لحساب الدولة بمبدأ “إقراض الدولة”. وكل هذا جرى بذريعة “قدسية الاحتياطات”، الشعار الملغوم الذي لم يُرفع إلا في أزمنة المكائد والمناورات.

في جميع الحالات، هناك من يشير اليوم إلى أنّ ما يقوم به نوّاب الحاكم، وإن طلبوا “ما لا يلزم” قانونيًا، يمثّل ضمانة لضبط الإنفاق من احتياطات مصرف لبنان، للحؤول دون حصول ارتطام كبير مع نفاذها. ومع ذلك، يمكن القول أن الصلاحيّات التي يملكها نوّاب الحاكم في ما يخص السياسة النقديّة، وطريقة ضبط مسار توحيد سعر الصرف، تكفي لتقييد وتنظيم عمليّة استعمال الاحتياطات، من دون اللجوء إلى بدعة “قدسيّة الاحتياطات”، أو الانسحاب من مهام السياسة النقديّة التقليديّة.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةأزمة الغذاء تتعمق.. والحل بأيدي الذكاء الاصطناعي
المقالة القادمةقيود مبطَّنة على أموال النفط والغاز: “الصندوق” مهدَّد بالفساد