المستشفيات لأهل السياسة في لبنان ليست أكثر من «مفتاح انتخابي»، وبالنسبة إلى أصحابها أشبه ما تكون بدجاجة تبيض ذهباً. سوء توزيع السقوف المالية يقود إلى ما هو «أعوص»: عقود مصالحة بملايين الليرات تتراكم عجزاً في موازنة الاستشفاء في غياب أيّ نوع من الرقابة، اللهم إلا الاعتماد على ذمم أصحاب المستشفيات… وبعض هؤلاء أصحاب ذمم واسعة!
بين 50 و100مليار ليرة تتأرجح نسبة العجز السنوي في «قطاع» الاستشفاء في موازنة وزارة الصحة العامة. في مقابل 450 مليار ليرة تُرصد سنوياً، هناك «احتياطي» عجز، يتراكم عاماً بعد آخر. وهو ينذر، اليوم، بالأسوأ.
التدحرج بدأ عام 2012، أولى «السنوات العجاف» السبع التي مرّت على الوزارة، ولا تزال مستمرة. وهو نتيجة سياسة «عقود المصالحة» التي استسهلت الوزارة – كما غيرها – سلوكها، ليس في قطاع الاستشفاء وحده وإنما في الدواء وغيره. هذه العقود التي تُعرّف بأنها عقود نفقاتٍ لاحقة، هي السبب الأساس للعجز السنوي في اعتماد الاستشفاء. وقد قدّرت لجنة الصحة والعمل النيابية قيمة عقود المصالحة التي تجريها وزارة الصحة مع المستشفيات بعد استنفاد الأخيرة سقوفها المالية بحدود «480 مليار ليرة لبنانية بين الأعوام 2012 و2017»، بمعدّل سنوي وسطي يبلغ 80 مليار ليرة «بدل» تخطيها السقوف المالية. في المقابل، تبدو «حسبة» الوزارة أكثر «تفاؤلاً». إذ تشير إلى أن للمستشفيات في ذمّتها نحو 388 ملياراً هي القيمة «الصافية»، إذ في مثل هذه العقود غالباً ما تقوم الوزارة بإعادة تدقيق المبالغ وتُجري حسومات تصل أحياناً إلى نحو 30% لبعض المستشفيات.
لم تُحتسب عقود المصالحة للعامين الماضيين بعد. مع ذلك، التوقعات بأن تكون «على المسار نفسه». فالعجز الذي بدأ يكبر ككرة ثلج منذ عام 2012، لا يبدو أنه سيتغيّر. قبل ذلك التاريخ، كان يمكن احتمال العجز الفائض على الموازنة. إذ أن قيمة عقود المصالحة «لم تكن تراكم أكثر من 7 إلى 8 مليارات ليرة كنفقات إضافية… وفي أقصى الحالات كانت تلامس الـ 10 مليارات»، بحسب وزير الصحة السابق محمد جواد خليفة. يوضح أنه في الفترة التي تولّى فيها الوزارة «كانت هناك عقود مصالحة عن سنواتٍ سابقة بقيمة 123 مليار ليرة، وهي ديون يجري تدويرها حتى لا تسقط. يومها شكّلنا لجنة من الوزارة والتفتيش المركزي وديوان المحاسبة وأعدنا التدقيق بها على دفعتين وخفضنا المبلغ إلى نحو 60 ملياراً». قبل بضع سنوات، أجرت الوزارة تدقيقاً لعقود المصالحة عن الأعوام 2000 حتى 2010، ورسا المبلغ عند حدود 120 مليار ليرة. مع ذلك، لم يكن بالمقدور دفعها، لذلك جرى إصدار قانون «لتغطية المصالحات بسندات خزينة»، وُزّعت على المستشفيات الخاصة من دون الحكومية، «كون الأخيرة لا تستطيع بحسب القانون تقاضي سندات خزينة»، بحسب رئيس مصلحة الديوان في الوزارة فادي سنان.
كيف تتراكم هذه الأرقام؟
تدفع الوزارة 450 مليار ليرة سقوفاً مالية للمستشفيات للمرضى الذين يُعالجون على نفقتها. لكن، «يصدف» أن السقف المالي لغالبية المستشفيات ينتهي في الخامس عشر من كل شهر، وهذا صار «عُرفاً» متّبعاً. بعدها، بيومٍ واحد، يبدأ مسلسل الفساد الذي يراكم على موازنة الاستشفاء في الوزارة نفقات إضافية تستوجب، في ما بعد، إجراءَ عقد مصالحة بالفروقات التي يتقدّم بها كل مستشفى. هكذا، تسير الآلية: ينتهي السقف المالي و«تبدأ الحسابة تحسب».
سوء توزيع السقوف
المشكلة أساساً تبدأ بالسقوف المالية وفي سوء توزيعها على المستشفيات. إذ لا توزّع وفقاً لنوعية الخدمات التي يقدمها المستشفى أو الاختصاصات الطبية التي يغطيها أو نسبة الإقبال وعدد المرضى وغيره. «السياسة هي التي تحكم توزيع السقوف لا الحاجة»، بحسب تأكيدات أكثر من وزير سابق. هكذا، يمكن أن يبلغ السقف المالي، مثلاً، لمستشفى عين وزين في منطقة الشوف عن الفئة الأولى (يشمل جميع أنواع العلاجات الاستشفائية القصيرة الأمد) 9 مليارات و370 مليون ليرة، فيما يبلغ السقف المالي عن الفئة نفسها في الجامعة الأميركية في بيروت 7 مليارات و450 مليوناً، وفي أوتيل ديو 4 مليارات و400 مليون، وفي مستشفى بهمن 3 مليارات و800 مليون، وفي مستشفى الرسول الأعظم 9 مليارات. ثمة أمثلة أخرى عن التباين في السقوف بين مستشفى وآخر. سقف مستشفى الحياة، مثلاً، عن الفئة الأولى يبلغ مليار ليرة فقط. وفي المقابل، يبلغ السقف المالي لمستشفى الجبل الذي بالكاد يملك اختصاصات، مليارين ونصف مليار ليرة.
وحتى في الزيادات على السقوف ثمة ما هو مثير للتساؤلات. ففي آخر زيادة، في عهد الوزير السابق غسان حاصباني، مثلاً، رفُع السقف المالي لمستشفى أوتيل ديو 500 مليون ليرة ليصبح 4 مليارات و400 مليون، علماً أن 700 مليون ليرة كانت قد تبقّت من السقف المالي للمستشفى من العام السابق!
هذا السوء في التوزيع يقود إلى فوضى في عقود المصالحة. وهنا، المشكلة تصبح «أعوص». ففي غياب الرقابة، يفرض كل مستشفى «أرقامه». لكن ثمة ما هو أخطر. إذ تؤكد مصادر في الوزارة أن هناك مستشفيات «تدفع» لتضخيم عقودها. وهذا لا يحدث، بالتأكيد، من دون «شبكة» تضمّ موظفين في الوزارة وأطباء مراقبين.
“يصدف أن السقف المالي لغالبية المستشفيات ينتهي في الـ15 من كل شهر لتتراكم على الوزارة نفقات إضافية
صحيح أن عقود المصالحة هي صيغة قانونية منصوص عليها في قانون الموجبات والعقود «لحسم نزاع قائم بين فريقين» (المادة 1035)، إلا أن تطبيقها – خارج حدود القانون – يعدّ سرقة موصوفة للمال العام، أو، تلطيفاً، باب من أبواب «الهدر والاستنسابية والتنفيعات» على ما يقول النائب علي المقداد، وهو طبيب خبر «المصالحات» عن قرب. «صار عنا 400 مليار هدر» لأنه «ما بعد اليوم الـ15 من كل شهر، عندما ينتهي السقف المالي، تبدأ الواسطات والتدخلات السياسية في عمل الوزارة واتصالات الوزراء والنواب وتربيح الجميلة على قاعدة أن سقفنا المالي انتهى، بس كرمالك رح نمشيها»!
هكذا، تمشي معاملات المرضى ما بعد السقف. لماذا؟ لأن «الرقابة مفقودة»، يقول أحد العاملين في الوزارة، غامزاً من قناة الطبيب المراقب الذي تعيّنه الوزارة لمراقبة فواتير المستشفى، فهذا الأخير «بعد التجربة، ثبت أنه بحاجة لمراقب يراقبه». إذ أن كثيرين من هؤلاء «يقدّمون خدماتهم للمستشفى في مقابل السماح لهم بممارسة أعمال طبية داخل المستشفى، وهو ما يعدّ بمثابة رشوة. وفي أحسن الأحوال يُعطى هؤلاء نسبة على المعاملة». في المقابل لا ينبغي أن يُحمّل هؤلاء كل التبعات في ظل سطوة الزبائنية وسياسة التنفيعات «تاريخياً» على عمل الوزارة. يروي طبيب مراقب تجربته مع الرقابة: «فور تعييني في أحد المستشفيات عملت كما يجب فكان الرد بنقلي إلى مكان آخر»! في المكان الآخر «كانت الفواتير تنهال عليّ بالمئات في اليوم الواحد، حاولت أن أدقّق فيها، وفي كل مرة كانت تحدث المشاكل، إلى أن جاءني اتصال من أحد المستشارين في الوزارة يطلب مني بحبحة الفواتير». المراقب، في النهاية، «كبش محرقة، وقد يغرّ في بعض الأوقات بالأتعاب البرانية».
لماذا يحدث كل ذلك؟ وأين هو دور وزارة الصحة في مراقبة الفواتير؟ هنا، يشير خليفة إلى أنه فرض إجراء يقضي «بالتوقيع شخصياً على المعاملات التي تأتي بعد انتهاء السقف المالي، كما فرضت على الأطباء المراقبين العودة إلى الوزير مباشرة لتقدير الحالات الطارئة التي تستوجب الدخول إلى المستشفى أو تحويلها إلى مستشفى آخر لا يزال ضمن السقف المالي». لكنه، كان إجراءً رافق حقبة. منذ ذاك، تسجّل مئات الملفات يومياً في «الصحة» كنفقات إضافية، ولا تملك الوزارة سوى تسديدها كديون. لا يعرف العاملون في ترتيب المصالحات «كم تبلغ القيمة الفعلية. نعرف أنها فواتير ملغومة، لكن لا يمكننا معرفة ما إذا كانت الحالة الطبية التي دخلت المستشفى هي نفسها المسجلة على فواتير الاستشفاء».
تعرف الوزارة ذلك جيداً. مع ذلك، أدار الوزراء الذين تعاقبوا على إدارتها أذنهم الطرشاء. الكل يعرف أن المشكلة الأساس تكمن في سوء توزيع السقوف، وأن الحل في توزيع عادل لها وفي الرقابة على عمل المستشفيات، غير أن «السيستم ما بيركب». السبب؟ اسألوا عن الزبائنية السياسية.
عين وزين: “المستشفى الملك”
هناك 193 مستشفى، بين حكومي وخاص، لها في ذمّة الدولة ديون تحت خانة عقود المصالحة. إلا أن لمستشفى عين وزين الشوفي «خصوصية» لافتة. حظوظ هذا الأخير بدأت بالتوهّج والزيادات على سقفه المالي تتوالى في «عهد» الوزير وائل أبو فاعور. ففي الفئة الأولى التي تشمل العلاجات الاستشفائية القصيرة الأمد، يحتل عين وزين المرتبة الأولى بين السقوف المالية للمستشفيات الخاصة، بـ9 مليارات و370 مليون ليرة، وبمليار و600 مليون ليرة لمركز القلب. وضمن الفئة الثانية (تتعلق بالإقامة الطويلة في مراكز التأهيل ودور العجزة والمصحّات ومستشفى الأمراض العقلية)، يتقاضى مستشفى عين وزين ـ دار العجزة 392 مليون ليرة (أمراض مزمنة) و200 مليون (شلل وإعاقات قابلة للتأهيل) و500 مليون ليرة (غيبوبة ـ كوما). وضمن الفئة الثالثة، 150 مليون ليرة (pet scan – ct scan – mri – radio) و800 مليون ليرة (العلاج السرطاني ـ radio).
في آخر مرّة، طلبت فيها إدارة «الصحة» تطبيق الحسم على عقود المصالحة العائدة للمستشفيات، طال الحسم عقود عين وزين بقيمة 29%. يومها، قامت الدنيا ولم تقعد، ووصلت الاتصالات إلى الوزير الذي خفّض الحسم إلى 19%.
“بيقبض وما بيقبض”
ثمة مستشفيان لم يتقاضيا فلساً واحداً من الأموال التي سُدّدت عن بعض عقود المصالحة هما مستشفيا المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت وحمود في صيدا. في المقابل، هناك مستشفيان يتقاضيان جزءاً من «مستحقاتهما» من كل سلفة تأتي ضمن خانة عقود المصالحة، هما مستشفى رياق ومستشفى دار الأمل الجامعي. آخر دفعة في عهد الوزير غسان حاصباني لتسديد بعض «مستحقات» المستشفيات في إطار هذه العقود، شملت أربعة مستشفيات هي دار الأمل الجامعي ورياق ومستشفيان في قضاء زغرتا.