طفيلي: شاغلو هذه الأملاك يحققون أرباحاً خيالية ولا يدفعون إلا رسوماً زهيدة رغم تعدياتهم
بيروتي: خسرنا من «كورونا» والأزمة المالية… كلفة تشغيلنا عالية وأموالنا محجوزة في المصارف
أيوب: قيمة التسويات التي تضمنها القانون 64/2017 مخفّضة وباتت بفعل الأزمة زهيدة لا تذكر
تحضر التسويات على الأملاك البحرية في كل الإقتراحات التي يُطلقها السياسيون المخادعون لمحاربة الفساد وزيادة إيرادات الخزينة العامة. لكن سرعان ما تذهب أدراج الرياح لأن تلك «الأملاك» من ضمن سلسلة المصالح والتنفيعات لهذه الطبقة الحاكمة.
لم تنظر الطبقة السياسية إلى الأملاك البحرية منذ تسعينات القرن الماضي إلا بإعتبارها «محميات خاصة» في زمن السلم والإعمار وتوزيع المغانم، بعد أن كانت مسرحاً لعمليات «السطو الممنهجة» في الحرب الأهلية. أما في زمن القحط والإنهيار الحالي فيتم التغاضي عنها. إذ وضع ملف القانون رقم 64 الصادر عام 2017، في الأدراج من دون أن تُفكر السلطة للحظة واحدة في تعديل الرسوم السنوية على الشاغلين للأملاك البحرية، بوصفها أبرز أبواب الإيرادات، بشكل يتناسب مع الأرباح المتوقّع جنيها منها.
دفتر شروط لم يُطلق
تجدر الاشارة إلى أن هذه الفكرة لاحت في خاطر وزير الاشغال علي حمية في تشرين الثاني2021، حين أعلن عن «نية الوزارة الإعلان عن دفتر شروط لإطلاق مزايدة لتأجير وإستثمار الأملاك العامة البحرية، وتعديل المرسوم الذي كان مبنياً على أساس سعر الدولار بـ1500 ليرة، بهدف زيادة إيرادات الدولة والحفاظ على العمل السياحي البحري في لبنان». لكن هذه الفكرة لم تُترجم لاحقاً بأي إجراء عملي. وحين راجعته «نداء الوطن» لمعرفة موعد إطلاق دفتر الشروط كان الجواب بأن «الوزير حمية مشغول في متابعة ملفات أخرى حالياً».
يذكر أن القانون 64/2017 مُجحف ولا يحفظ حقوق عموم اللبنانيين، بل يحصرها في يد فئة قليلة غالباً ما تكون محمية سياسياً. وبعد التشريع لم يقم القضاء والادارة العامة بالسهر على تنفيذ القانون. وهذه منهجية مستمرة منذ 30 سنة. ومن الامثلة على هذا التعاطي النفعي أنه في 7 أكتوبر 1991، أصدر الرئيس الياس الهراوي مرسوماً سمح فيه لشركة غاز بإستثمار أكثر من 19 الف متر مربع من الأملاك البحرية بإيجار سنوي 26 مليون ليرة. ولا تزال الشركة تدفع هذا الرسم إلى الآن. (أقل من ألف دولار بسعر الليرة اليوم)
علماً بأن الترخيص بإشغال الاملاك العمومية هو، بطبيعته، ترخيص مؤقت وعارض، يُمنح لسنة واحدة قابلة للتجديد بالرضى الضمني، ويمكن إلغاؤه في أي وقت ومن دون أي تعويض. ويمكن مراجعته كل خمس سنوات في جملة الاملاك المعنية أو قسم منها بناء على إقتراح احدى الدوائر ذات الشأن، عملاً بالمواد 14 و17 و18 و20 من القرار 144/1925.
987 مؤسسة غير مرخصة!
بلغة القانون والأرقام «لا يجوز بيع هذه الأملاك، ويمكن فقط تأجيرها بضوابط وشروط محددة، كأن يكون المستأجر يملك عقاراً متاخماً للأملاك العامة البحرية». وتبلغ مساحة الإشغالات العامة البحرية في لبنان، بحسب «الدولية للمعلومات»، 4.89 ملايين متر مربع، من بينها 2.36 مليون متر مربع مرخص، تشغلها 73 مؤسسة. مقابل 2.53 مليون غير مرخصة، وتشغلها 987 مؤسسة. ليصبح مجموع المنشآت التي تشغل الأملاك البحرية 1060 مؤسسة، نحو 7% مرخصة و93% منها غير مرخصة.
وتبلغ الإيرادات السنوية لإشغال الأملاك البحرية نحو 15 مليار ليرة لبنانية (نحو 10 ملايين دولار وفق سعر الصرف الرسمي (1507 ) وأقل من 500 ألف دولار وفقاً للسوق الموازية للدولار.
أرباح خيالية
يشرح الخبير الإحصائي الدكتور عباس طفيلي لـ»نداء الوطن» أن «تطبيق القانون 64/2017 سمح لأصحاب هذه المؤسسات بتحقيق أرباح خيالية، لأنهم يدفعون المستحقات للدولة ورواتب موظفيهم على سعر 1500 ليرة للدولار، ويتقاضون ثمن الخدمات التي يقدمونها في مؤسساتهم بالدولار وفقاً لسعر دولار سوق السوداء»، مشيراً في المقابل الى المباني والمنشآت التي تستأجرها الدولة كمقرات لوزاراتها ومؤسساتها ومدارسها ببدلات إيجار مرتفعة (كون أصحابها من أزلام الطبقة السياسية). في الوقت الذي تتقاضى فيه الدولة بدلات إستثمار زهيدة من أصحاب المؤسسات السياحية البحرية والنهرية، وهذا الامر ينطبق أيضاً على أملاك النقل المشترك التي يتم إستئجارها أيضاً كمواقف للسيارات بأسعار زهيدة».
البدلات على سعر دولار عائم
يعتبر طفيلي أنه «من المفروض القيام بجردة على هذه الأملاك العامة. ووضع بدلات إيجار لها على سعر دولار عائم. وهذا الإجراء يمكن أن يكون بديلاً عادلاً عن رفع الدولار الجمركي الذي يطال كافة اللبنانيين»، مشدداً على أن «مردود الموسم السياحي هذا العام كفيل بحل أزمة الخبز والبنزين والإتصالات. لكن المسؤولين السياسيين لا يريدون التفكير أبعد من مصالحهم الشخصية، والدليل أنه في زمن حكومة الرئيس سليم الحص قُدرت عائدات الأملاك البحرية السنوية بـ400 مليون دولار، واليوم يمكن أن يصل إلى مليارات مع إرتفاع أسعار العقارات».
مراجعة قيمة الرسوم
على ضفة أصحاب المؤسسات السياحية البحرية، يشرح نقيب أصحاب هذه المؤسسات جان بيروتي لـ»نداء الوطن» أنه «من حق الدولة مراجعة قيمة الرسوم التي تتقاضاها لقاء إستثمار الاملاك البحرية من قبل مؤسسات خاصة، لكن يجب الأخذ بعين الإعتبار أيضاً كلفة التشغيل التي تتكبدها المؤسسات والتي تشكل بين 40 و50% من مدخولها، علما أنها تكبدت خسائر نتيجة الاقفال الذي حصل في فترة «كورونا» والانهيار الذي نمر فيه».
يضيف: «أصحاب المؤسسات السياحية كباقي اللبنانيين تحتجز أموالهم في المصارف اللبنانية. ولكن هذا كله لا يمنع ضرورة إجراء تعديل للرسوم بعد تغيير المراسيم التي تتعلق بغلاء المعيشة»، مشيراً إلى أن «أصحاب المؤسسات يدرسون مع وزارة الاشغال صيغة لتعديل الرسوم بما يوازن بين إستمرار هذه المؤسسات وإعطاء الدولة اللبنانية حقها».
ويختم: «السؤال الذي يجب أن يُطرح هو بعد إنتهاء الموسم السياحي، ماذا ينتظرنا كأصحاب مؤسسات ويد عاملة؟ لا يمكن تحميل كل الاعباء والمسؤوليات للقطاع الخاص وحده».
يجب إزالة التعديات فوراً
في الميزان القانوني يرى الخبراء أن القانون 64/2017 يبقى قاصراً لإعتبارات عدّة، أولها أن التعديات لا تحتاج قانوناً لمعالجتها بل يجب إزالتها فوراً (بحسب قانوني المحاسبة والعقوبات). خصوصاً وأن معظم المؤسسات السياحية على طول الشاطئ لم تحترم القوانين المرعية: شيدت الحواجز وعزلت الأملاك البحرية المستثمرة لتمنع وصول المواطنين المجاني إلى الشاطئ. كما أن السلطات الرسمية علّقت مهل معالجة هذه التعديات بعد انتهائها في تشرين الأول 2019. ولم تضع حداً لأصحاب التعديات الذين لم يقدموا ملفات معالجة بشأنها. مما دفع معظم المؤسسات لتجاهل قرار معالجة مخالفتها. كما أن تسوية غرامات هذه التعديات يجب أن تكون من تاريخ إشغالها قبل 1994، فإذا أعيدت تسوية التخمينات قد تدر ملياري دولار على خزينة الدولة».
القانون لزوم ما لا يلزم
يتفق مدير جمعية «نحن» محمد أيوب مع هذه المقاربة القانونية، ويشرح لـ»نداء الوطن» أن «قيمة التسويات المالية التي تضمنها القانون 64/2017 بالأساس مخفّضة وباتت الآن زهيدة بعد الازمة. والكثير من أصحاب المؤسسات السياحية البحرية الذين تخلفوا عن سداد هذه التسويات سابقاً يعمدون إلى تسديدها حالياً بسبب قيمتها الضئيلة».
يضيف: «القانون برأينا هو لزوم ما لا يلزم، لأن المعتدي على أملاك الدولة والاملاك الخاصة يخضع لقانون العقوبات الذي يعتبر أن جزاءه التغريم وإزالة التعدي على نفقته والحبس. ولفت إلى أن «إقرار قانون 64/2017 سببه أن الدولة اللبنانية كانت في أزمة مالية وتريد زيادة إيرادات الخزينة. ورغم ذلك هذا القانون لم يتقيد به الكثير من أصحاب المؤسسات».
ويشدد على أن «المطلوب اليوم هو تنفيذ القوانين المتعلقة بالاملاك البحرية وهي كافية. أما الغرامات سواء تلك الواردة في قانون العقوبات أو قانون المحاسبة من المفترض إعادة تخمينها وفقاً للتطورات المالية التي حصلت بعد الانهيار وتعديل القانون وفقاً لهذه التطورات».
مردود شاطئ صور السنوي 4 ملايين دولار
ويرى أنه «حان الوقت للتعامل مع هذا الملف وفقاً لمفهوم الدولة وليس وفقاً لمفهوم التنفيعات والزبائنية. إنها أملاك عامة ويجب إستعادتها وتشغيلها لصالح كل المجتمع اللبناني، وهذا ما يحصل في كل بلدان العالم»، مشدداً على أن «الجمعية تقوم بدراسة حول المردود الإقتصادي لإستخدام الشواطئ. لم ينته العمل فيها بشكل نهائي بعد، ولكن يمكن إيراد أمثلة منها أن شاطئ صور يؤمن للبلدية مدخولاً سنوياً قدره 4 ملايين دولار، ويترافق ذلك من إنتعاش للمؤسسات التجارية في محيط الشاطئ ويزيد مدخولها بين 10 و70% ويؤمن وظائف لـ700 عامل».
يوضح أيوب أن «البحر هو قوة إقتصادية يجب إستعادتها لصالح الشعب اللبناني لكي تستعيد مهن صيد الاسماك وإستخراج الملح زخمها بدل الإستيراد من الخارج». وشدد على أنه «يجب وضع إستراتيجية عامة لإستخدام الشاطئ من قبل الدولة، ويمكن للبلديات أن تلعب دوراً أساسياً فيها. وهناك خطة شاملة لترتيب الاراضي اللبنانية تمّ إقرارها في العام 2009، والمطلوب إعداد مخططات توجيهية محلية تنسجم مع هذه الخطة لتفعيل الشاطئ اللبناني».
في 1999 قدرت الإيرادات المفترضة سنوياً بـ400 مليون دولار… هي اليوم نصف مليون!
مثال صارخ: مستثمر 19 ألف متر مربع يدفع أقل من ألف دولار.
1060 مؤسسة على مساحة نحو 5 ملايين متر مربع… 93% غير مرخص.
أصحاب المؤسسات يدرسون مع وزارة الاشغال صيغة لتعديل الرسوم.
تراكم الغرامات مع اعادة التخمينات قد تدر ملياري دولار على الخزينة.
التسويات المالية لا تساوي شيئاً أمام حق كل لبناني في الأملاك العامة
يعتبر محمد أيوب أن «إجراء رفع قيمة التسوية المالية غير مفيد، لأن الحق لا يتجزأ. حق الشعب اللبناني بالشاطئ اللبناني ليس حقاً مالياً فقط بل أيضاً له حق في تغريم المعتدي وحفظ حق اللبناني بإمتلاك الارض»، مشدداً على أن «هذا الامر لا يمكن المساومة عليه، وهو أهم من الأموال لسبب بسيط أن أرض الشاطئ أكثر مردوداً اقتصادياً على الشعب اللبناني من التسويات التي يمكن أن تحصّل من أصحاب المؤسسات السياحية البحرية».
ويختم: «الدليل على ذلك أن المصارف اللبنانية تريد الاستيلاء على الاملاك العامة لأنها من الناحية الاقتصادية هي أهم من الاموال «الكاش»، ويجب التعاطي مع البحر كمورد إقتصادي وليس كقيمة ورقية».
تجربة إزالة تعديات الليطاني
يؤكد عباس طفيلي أنه يجب الإحتذاء بتجربة رئيس مصلحة الليطاني سامر علوية الذي قام بإزالة كل المخالفات على مجرى النهر، والمطلوب تطبيق هذه الآلية على الأملاك البحرية بعد إعطاء فترة سماح لإزالة التعديات».