على أعتاب مرحلة التفاوض لإعادة هيكلة الدين العام، ومراجعة عمليّة توزيع الخسائر في خطّة التعافي المالي، نشر “مركز تراينغل” للأبحاث والسياسات العامّة والإعلام يوم أمس الخميس دراسة ماليّة، بعنوان “البيع العظيم: هكذا باع القطاع المصرفي اللبناني مستقبل البلاد للمصالح الخارجيّة”. مضمون الدراسة اتسم بحساسيّة استثنائيّة في هذه المرحلة بالتحديد، بالنظر إلى تركيزه على عمليّات التلاعب بسندات اليوروبوند (سندات الدين العام بالعملات الأجنبيّة) التي قام بها القطاع المصرفي، وأثر هذه العمليّات على مستقبل البلاد الاقتصادي ومسار التعافي المالي. فقد بات من الواضح أن ثمّة خبايا جرت طوال السنتين الماضيتين، بما يخص توظيفات المصارف في الدين العام، وهو ما يُفترض أن يتم أخذه بالاعتبار عند الدخول في عمليّة توزيع الخسائر الناتجة عن الانهيار المالي.
انكشاف الفضائح
ما يعلمه الرأي العام حتّى اليوم بخصوص سندات اليوروبوند، هو أن لبنان اتخذ بتاريخ 16 شباط 2020 قرار الامتناع عن دفع سندات اليوروبوند المستحقة في ذلك الوقت، والبالغة قيمتها 1.2 مليار دولار أميركي. وهذا القرار، كان جزءاً من قرار أكبر، يقضي بالامتناع عن سداد السندات اللاحقة التي تستحق بتواريخ مقبلة. وهو ما مثّل بالنسبة للجمهور محطّة مفصليّة في سياق الأحداث الماليّة التي تتالت منذ ذلك الوقت. لكن بعد أكثر من عامين على هذه الواقعة، بات من الواضح أنّ نعلمه هنا ليس سوى جزء يسير من المشهد المرتبط بهذه السندات، وأنّ هذه الواقعة تزامنت مع مروحة واسعة من الألاعيب المصرفيّة التي سيدفع ثمنها اليوم لبنان. باختصار، أصبح من السهل اليوم كشف هذه الخبايا، بعد توفّر كميّة كبيرة من الداتا المرتبطة بهذا الملف، وبعد اندفاع لاعبين سابقين للتحدّث عن الألاعيب المصرفيّة.
تحت ستار عمليّات “بيع اليوروبوند”، التي لم يمنعها مصرف لبنان منذ ما قبل حصول الأزمة، قامت المصارف اللبنانيّة بين كانون الثاني وتشرين الأوّل من العام 2019 ببيع ما يقارب 1.2 مليار دولار من سندات اليوروبوند لمصلحة مضاربين وتجّار مجهولين أجانب، ما مثّل عمليّات تهريب مقنّعة للسيولة المصرفيّة لخارج البلاد، قبل حصول الانهيار المصرفي. وبعد حصول الانهيار، استمرّت عمليّات عمليّات البيع هذه لتقارب قيمتها 3.5 مليار دولار بين شهري تشرين الأوّل 2019 وآذار 2020، ما يجعل القيمة الإجماليّة للسندات المباعة نحو 4.7 مليار دولار بين كانون الثاني 2019 وآذار 2020. وحتّى خلال العام الماضي، أي عام 2021، استمرّت هذه العمليّات بوتيرة أبطأ، لتقارب قيمتها الإجماليّة في هذه الفترة حدود 1.4 مليار دولار.
لي ذراع الدول المفلسة
في خلاصة الأمر، تمكنت المصارف وقبل أن تدخل في المفاوضات الرسميّة لإعادة هيكلة هذه الديون، من التخلّص من نحو 40% من سندات اليوروبوند التي تملكها. وبدل أن تكون معالجة أزمة التخلّف عن هذه السندات شأناً محلّياً، يمكن أن تتم معالجته بين الحكومة والمصارف، عبر إعادة هيكلة الديون، انتقل جزء كبير من محفظة السندات إلى المضاربين في الأسواق الدوليّة، الأكثر قدرة على فرض شروطهم على الدولة اللبنانيّة. مع الإشارة إلى أنّ جزءاً كبيراً من هؤلاء اللاعبين هم من الصناديق المتخصّصة في شراء السندات المتعثّرة، الذين يمتهنون لي ذراع الدول المفلسة بالتحكيم الدولي الأجنبي. وهو ما يعني أن ألاعيب المصارف المرتبطة بسندات اليوروبوند رمت بمستقبل أزمة سندات اليوروبوند في المجهول.
أمّا الأخطر، فهو أنّ المصارف منحت بهذه الطريقة الدائنين الأجانب القدرة على الحصول على “حق الفيتو”، الذي يمنع التفاهم على عمليّات إعادة هيكلة الديون، والذي يُكتسب عند حصول هؤلاء على نسبة من سندات اليوروبوند التي تستحق في كل تاريخ. مع الإشارة إلى أنّ مصرف لبنان أو وزارة الماليّة لم يبادرا إلى التدخّل إزاء هذه العمليّة، رغم أنّها تشكّل عمليّة تهريب غير مباشرة للأصول إلى خارج البلاد. هكذا، استبدلت المصارف سندات دين يمكن التفاهم على إعادة جدولتها مع الدولة اللبنانيّة، بأصول خارجيّة لا يمكن للحكومة أو مصرف لبنان ضبطها، خصوصًا إذا تم استعمالها في عمليّات تهريب الأموال لمصلحة كبار المودعين (والتي تثبت الأرقام أنها جرت بالفعل).
دور علي حسن خليل: متواطئ أو قليل الخبرة؟
تشير الدراسة إلى دور وزير الماليّة السابق علي حسن خليل في هذه العمليّة، الذي تلقى بتاريخ 9 كانون الثاني 2019 كتاباً من مستشاره طلال سلمان يقترح الدخول في عمليّة إعادة هيكلة منظّمة للدين العام. وزير الماليّة، وبدل الشروع بالتفاوض الصامت مع المصارف للتوصّل إلى تفاهم على إعادة هيكلة منظمة وهادئة، بادر فورًا إلى إذاعة الخبر عبر الإعلام، وهو ما دفع موديز مباشرةً إلى تخفيض تصنيف السندات السياديّة اللبنانيّة، فيما أطلق التصريح موجة بيع السندات من قبل المصارف، التي استفادت من هذه المعلومة للتخلّص من محفظة سندات اليوروبوند التي تملكها. ومن هذه الزاوية بالتحديد، يمكن فهم انطلاق عمليّة بيع السندات وتهريب عوائد بيعها للخارج منذ بداية العام 2019. مع العلم أن مصرف لبنان كان بإمكانه إجبار المصارف مثلًا على إيداع عائدات بيع السندات في المصرف المركزي، لمنع إساءة استعمال هذه العمليّة، لكن ذلك لم يحدث.
على أي حال، يشير التقرير بوضوح إلى أن انفضاح المسألة بعد تصريح علي حسن خليل، مثّل أحد الأسباب التي صعّبت إصدار الدولة اللبنانيّة لأي سندات بالعملات الأجنبيّة خلال العام 2019، بالنظر إلى إدراك الأسواق الماليّة طبيعة التعثّر المقبل، والذي سينتج عنه تخلّفاً عن دفع السندات. كما مثّل هذه التصريح دافعاً لهبوط أسعار السندات بشكل سريع في الأسواق العالميّة، بعد إدراك حملة هذه السندات –منهم المصارف- لطبيعة المرحلة المقبلة. باختصار، وبدل التعامل مع المسألة بصمت، وبإجراءات تضبط ملكيّة هذه السندات، فجّر علي حسن خليل المسألة بهذا الشكل، ومن دون أي ضوابط. وهو ما مهّد لإساءة استعمال عمليّات اليوروبوند التجاريّة.
هل كان علي حسن خليل مجرّد وزير قليل الخبرة؟ أم هل انطوت خطوته على نوايا خبيثة، ذات اتصال بمصالح مصرفيّة عميقة؟ هل يمكن ربط ما قام به، بموقف حركة أمل المنسجم مع أولويّات جمعيّة المصارف في المجلس النيابي؟ هل يمكن أن تكون المسألة خليط بين العاملين؟ بمعنى أن يكون الوزير قليل الخبرة مجرّد أداة لمصالح دفعته بهذا الاتجاه من دون أن يدرك عواقب ما قام به. لا يمكن الجزم بهذه المسألة، لكن النتيجة كانت كارثيّة.