عمل النساء في مهبّ الأزمات: لا تعويض ولا من يدعمون

دائماً ما واجهت النساء في لبنان تحديات أمام مشاركتهن في الحياة الاقتصادية، خاصة على صعيد الاستثمار وفتح مشاريع اقتصادية وترأّس مؤسسات وشركات خاصة، بما يرتبط بعقلية ذكورية سائدة في المجتمع اللبناني تضع العصي في دواليب مساهمة النساء اقتصادياً. وهذا ما يفسّر تراجع نسبة النساء العاملات وسيدات الأعمال مقارنة بالرجال.

في الحرب الإسرائيلية الأخيرة منذ 8 تشرين الأول 2023، والتي اشتدت في أيلول الماضي، بلغت الخسائر في المؤسسات الاقتصادية معدلات عالية لم يجرِ إحصاؤها حتى الآن، وطالت الرجال والنساء في مختلف القطاعات الاقتصادية، ولكنّها كانت أشدّ وطأة على السيدات لأنها زادت الطين بلة، وضاعفت عليهن التحديات.

بلغة الأرقام، بلغ عدد النساء العاملات من مجمل القوى العاملة في لبنان 29.3% عام 2019، بحسب مسح «القوى العاملة والظروف المعيشية للأسر» الذي أجرته إدارة الإحصاء المركزي بالتعاون مع منظمة العمل الدولية، وهي نسبة منخفضة مقارنة بمعدل مشاركة الرجال ويساوي حوالى 70%، كما بلغ معدل تبوّؤ النساء مراكز قيادية مقارنة بالرجال 28.9% مقابل 71.1% بالتوازي. استمرّت النسب في التراجع مع مرور الزمن، فعام 2022، لم تتجاوز نسبة النساء في القوى العاملة اللبنانية اللاتي تراوح أعمارهن بين 15 و64 عاماً 22%، وفقاً للبيانات الصادرة عن إدارة الإحصاء المركزيّ ونشرها البنك الدولي عام 2024 في تقرير بعنوان «تعزيز خدمات رعاية الأطفال لتحفيز دخول المرأة إلى سوق العمل ودعم النمو الاقتصادي».

وبحسب التقرير نفسه، تراوح أسباب عدم انخراط النساء اللواتي شملهن المسح الاستقصائي في سوق العمل بين رعاية الأطفال (60% من الأمهات) كسبب رئيسي، وانخفاض الأجور وعدم توافر وسائل النقل والمواصلات، بالإضافة إلى الاعتبارات الاجتماعية والثقافية والتقاليد الموروثة التي تتوقع من النساء أن يتفرغن للأعمال المنزلية ورعاية الأطفال، بالتزامن مع فجوة في توفير خدمات الرعاية للأطفال الأصغر سناً (أقل من سنة واحدة) بجودة عالية وتكلفة معقولة خاصة خارج المناطق الساحلية.

بالإضافة إلى العوامل الاجتماعية والثقافية التي تقع حجر عثرة في طريق مساهمة النساء في الحياة الاقتصادية، برزت أزمات في البلاد بدءاً من انتشار جائحة كورونا، وانفجار مرفأ بيروت عام 2020، مروراً باستفحال الأزمة الاقتصادية، وصولاً إلى الحرب الإسرائيلية الأخيرة. وصحيح أنّ هذه الأزمات أصابت أصحاب المصالح عموماً في القطاع الخاص، رجالاً ونساء، ولكن كان وقعها أكبر على النساء نظراً إلى العوامل الجندرية الموجودة أساساً في المجتمع اللبناني والتي ضاعفت أثر الأزمات على انخراط النساء في سوق العمل. ففي حين «لا تصل نسبة الشركات الخاصة في لبنان المملوكة من قبل سيدات إلى 5%»، بحسب رئيسة جمعية «السيدات القياديات» مديحة رسلان، يمكن دق ناقوس الخطر فعلاً عندما تتعرض هذه النسبة المتدنية جداً لخطر العدوان الإسرائيلي، على صعيد تعرضها للقصف بشكل كامل أو جزئي أو أضرار تصيب أسواق المبيعات في المناطق المتضررة، خاصة في الجنوب.

وتلحظ عضو مجلس إدارة جمعية «السيدات القياديات» ميراي القراب أبي نصر «تأثر المشاريع الاقتصادية بشكل كبير، لا سيّما المشاريع الصغيرة التي تديرها النساء، وإغلاق عدد من المؤسسات التجارية جراء انهيار العملة الوطنية وعدم القدرة على التأقلم مع تقلبات سعر الصرف إبّان الأزمة الاقتصادية. وعندما بدأ الاقتصاد يلتقط أنفاسه تدريجياً، جاءت الحرب فجأة لتعيدنا إلى نقطة الصفر، وتزيد من صعوبة الأوضاع على الجميع بمن فيهم النساء». لكن، خلال السنوات الخمس الماضية، ورغم التحديات الكبرى التي واجهنها، «أظهرت النساء قوة وعزيمة استثنائية، وقدرة على مواجهة الظروف الصعبة والتأقلم مع الواقع الجديد بإرادة صلبة وإصرار، حيث تمكنّ من إعادة بناء أعمالهن، وإطلاق مشاريع جديدة.

وبعد الحرب الأخيرة، مع انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل الحكومة، شعر اللبنانيون ببارقة أمل، وكانت النساء في طليعة المستجيبين لهذا التغيير، فأعدن فتح مشاريعهن، وعملن على تحسين أعمالهن كما شرعن في التخطيط لمواسم قادمة». وتعيد أبي نصر تكيّف النساء مع المصاعب والتحديات إلى «المرونة الاستثنائية التي تتميز بها المرأة، والعزيمة المتجذرة في طبيعتها، كما ترتبط بعائلتها، ترتبط أيضاً بأرضها، ما يجعلها أكثر تمسكًا بها وإصرارًا على تجاوز الأزمات».

هكذا تفسّر بتول علوية إصرارها على النهوض بعدما خسرت مصلحتها في الحرب «لأنني ابنة الجنوب مجبولة بالصمود، تعلمت من تراب الجنوب كيف أقف مجدداً بعد كل أزمة، وكيف أصنع من اللاشيء شيئاً»، كما تروي «للأخبار» قصتها. وكانت بتول تدير متجراً لبيع الورد والشوكولا «أون لاين» من شرفة منزلها في الضاحية الجنوبية لبيروت، بعدما خسر زوجها عمله في أحد المطاعم في بيروت جراء الأزمة الاقتصادية. عندما تعرّض منزلها للقصف الإسرائيلي، خسرت المصلحة، ولكنها صمّمت أن تواجه الحرب كما واجهت الأزمة الاقتصادية، ففتحت بعد شهر واحد من وقف إطلاق النار محلاً لبيع الورد والشوكولا في الضاحية.

لكن، ليست جميع القصص عن التحديات الاقتصادية التي تواجهها النساء ذات نهاية سعيدة، هناك كثيرات خسرن عملهن ولم يحصلن على أي تعويض أو دعم من أي جهة للنهوض من جديد. تروي رسلان «كيف ما عادت صاحبة معمل نبيذ في جزين قادرة على تلبية طلبات سوقها بعدما تضرر المعمل في الحرب، وخسرت سيدة من الجنوب حقول الزيتون التي تعرضت للقصف واحترقت بالكامل، فاضطرت إلى نقل معملها إلى قرية أخرى، إلا أنّ المعمل هناك تعرض للقصف أيضًا، ما يوضح حجم المأساة التي تعشيها سيدات الأعمال في لبنان». لم يحصل حتى الآن مسح شامل للخسائر في القطاع الخاص ككل بما فيه مصالح السيدات، ولكن «يبدو واضحاً حجم الضرر الكبير، لا سيما في القطاعات الزراعية والصناعية والسياحية». وترى رسلان أن مسؤولية الجهات الرسمية «ليست إجراء مسح شامل للدمار المادي فحسب، بل أيضًا للخسائر الاقتصادية الناجمة عن توقف النمو الاقتصادي».

إذاً، لا يمكن الوقوف عند قدرة النساء على التخطي من دون تقديم الدعم اللازم لسيدات الأعمال. تحاول بعض الجمعيات المساعدة، مثل «جمعية السيدات القياديات» حيث «عملنا جاهدين لتأمين منح للسيدات المتضررات، مثلما دعمنا عمليات الترميم لعدد من السيدات اللواتي تكبدن خسائر في أعمالهن بسبب انفجار المرفأ، كون هؤلاء السيدات لا يدعمن أنفسهن فقط، بل يعِلن عائلاتهن أيضًا، ما يجعل دعمهن ضرورة اقتصادية واجتماعية في آنٍ واحد. لكن، الضرر الذي لحق بالقطاع الخاص اليوم لم يبدأ فقط مع الحرب الأخيرة، بل منذ 8 أكتوبر، وما سبقه من أزمات متراكمة منذ عام 2019، ما يزيد صعوبة حلّ المشكلة على مستوى الجمعيات الضيق»، كما تقول رسلان. ليبقى المطلوب، «وضع سياسات اقتصادية تعزز مشاركة المرأة في سوق العمل، وهذا يعيدنا إلى إقرار الكوتا النسائية التي تضمن حضور العنصر النسوي في مواقع صنع القرار ودعم السياسات الاقتصادية «الصديقة للمرأة»، مثل تقديم إعفاءات ضريبية للشركات التي توظف عددًا أكبر من السيدات، ما يشجعها على توفير بيئة عمل أكثر ملاءمة لهن، خاصة في ما يتعلق بفترات الأمومة، ورعاية الأطفال، وغيرها من التحديات التي تواجهها النساء العاملات».

من جهتها، تشجع أبي نصر على وضع سياسات اقتصادية شاملة، لا تقتصر فقط على قضايا المرأة، بل تمتد إلى جميع القطاعات. «فرغم أهمية العمل على تعزيز حقوق النساء ودعمهن، إلا أن الأولوية اليوم تكمن في وضع خطط اقتصادية متكاملة لمواجهة الأزمة، تقوم بشكل أساسي على إعادة هيكلة القطاع المصرفي بشكل يسمح بتقديم القروض وتحفيز الاستثمار»، كما تدعو إلى «إعادة النظر في آليات الإدارة الحكومية لضمان تكافؤ الفرص بين الرجال والنساء، والاستفادة من الكفاءات النسائية التي أثبتت فعاليتها في مختلف المجالات. فالنهضة الاقتصادية والإدارية تبدأ من هنا، مع الحكومة الجديدة والعهد الجديد. وقد شهدنا خطوات إيجابية في هذا الاتجاه، مثل تعيين متحدثة باسم رئاسة الجمهورية، وهو مؤشر على توجه نحو مشاركة أوسع للمرأة في مراكز القرار».

وأخيراً، يبقى دعم مشاركة المرأة في الحياة الاقتصادية وتشجيعها على ريادة الأعمال وفتح مشاريع اقتصادية وتمكينها للاستمرار في وجه الأزمات المتعاقبة التي تمر بها البلاد حاجة ضرورية. ولا تأتي هذه الحاجة من ناحية حقوقية فقط، بل من أهمية مساهمة المرأة في الاقتصاد. إذ «أثبتت الدراسات أن وجود المرأة في أي قطاع يؤدي إلى تحسين الإنتاجية وتطوير أساليب العمل، لأنها تقدم منظوراً مختلفاً في العمل والتفكير وقيمة مضافة تكمل رؤية الرجل. فالرجل والمرأة لا يفكران بالطريقة نفسها، لكنهما يتكاملان، ما يؤدي إلى قرارات أكثر شمولية، سواء في مجالس الإدارة أو في المناصب القيادية الأخرى. وهو ما نحتاجه لينهض لبنان مجددًا، ويعود دولة مؤسسات، ويتمكن من استعادة موقعه على الخريطة العربية والعالمية»، على حدّ قول رسلان.

مصدرجريدة الأخبار - زينب حمود
المادة السابقةالبنك الدولي: 11 مليار دولار قيمة إعادة الإعمار في لبنان
المقالة القادمةالإقبال على شراء اللحوم في شهر رمضان